الصوفية بين الدين والفلسفة (9)الأسماء والصفات عند الفلاسفة

الأسماء والصفات عند الفلاسفة

أولاً:أفلاطون
كان نظر الفلاسفة اليونانيين دائماً إلى الإله منبثق عن تجربة ذاتية. يطفو فيها النشاط العقلي أحياناً والحدسي في أكثر الأحايين كما لوحظ من خلال نقول سابقة عنهم.
وقد عُلمَ أن أفلاطون أطلق على الإله اسم الخير الأسمى أو الخير الأعلى ونقل الأستاذ جميل صليبا عن أفلاطون بعض صفات الخير الأعلى فقال للخير الأول صفات:
فهو خير بذاته، وهو أعظم الحقائق ثبوتاً وهو مختلف عن كل ما في العالم فلا تدركه النفس إلا إذا تحولت عما هو خاضع للصيرورة وأصبحت قادرة على تحمل عبق التأمل.
وهو مستعص على الوصف بلغة الكلام... وهو معشوق لذاته وهو واحد بسيط أزلي كامل لا يتغير،... وهو مدبر وحكيم ينظم أمور الخلق.( )
وقد تحدث أفلاطون طويلاً عن الخير بوصفه العلة الأولى للصور فهو الذي يهب الصور – ليس فقط ماهيتها – بل وأيضاً وجودها أي أن الوجود والماهية بالنسبة إلى الصور مأخوذان مباشرة عن صورة الخير. فكأنه من الممكن إذن عن هذا الطريق أن نرتفع إلى صورة عليا أو (إله واحد) هو الإله بصيغة التعريف (الإله) الذي هو الخير.
يصفة أفلاطون بعد هذا بصفة الألوهية المعروفة فيصفه بالقدرة المطلقة والعلم والإرادة والحياة.( )
وهو العلة الأولى، وخلص أفلاطون إلى القول مهما وصفنا العلة الأولى التي هي الخير بالحقيقة فإننا نصيب الحق بحسب ما يمكن في أنفسنا إما بحسب ما تستحقه، فإن الأولى بنا أن نقول أن هذا الوصف بغاية النقصان عن استحقاقه.( )
ثانياً: الصفات عند أرسطو:
إن الله عند أرسطو: محرك أول غير متحرك تتحرك به الأشياء وهو أزلي أبدي، باق، قديم وهو عقل... ثم يقول والمحرك الأول لا تشوبه الهيولى ولا هو ذو جسم، فالمحرك الأول واحد في الحد والعدد والجسم المتحرك أيضاً إن كان متصل الحركة يجب أن يكون واحداً فالعالم واحد. وإذن فالعلة الأولى واحدة أي أن الله واحد.( )

ثالثاً: الصفات عند فيلون:
فيلون هو أول فيلسوف يهودي جمع بين الفلسفة واللاهوت( ) وقد كان شديد العناية بالكتب اليهودية وخصوصاً التوراة، وهو شديد العناية أيضاً بكتب الفلسفة اليونانية لذلك كان يرى أنه (لا ضير إذن على رجل الدين أن يأخذ بكلتا الثقافتين)( )
وهنا يأتي دور عقل فيلون ليحاول التوفيق بين الدين والفلسفة، ففيلون المتدين لم يكن يرى بداً من تأويل نصوص التوراة التي تصف الله بأوصاف لا تليق به كالندم والتعب – تقول التوراة في سفر التكوين( ) تحت عنوان (اليوم السابع يوم الراحة) وهكذا اكتملت السموات والأرض بكل ما فيها وفي اليوم السابع أتم الله عمله الذي قام به فاستراح فيه من جميع ما عمله.
وفي فقرة سقوط الإنسان تقول التوراة (ثم سمع الزوجان صوت الرب الإله ما شياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبئا من حضرة الرب فنادى الرب الإله آدم: أين أنت..)
وقالت التوراة في سفر التكوين أيضاً (.. رأى الرب أن شرَّ الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كلَّ تصور فكر قلبه يتسم دائماً بالإثم فملأ قلبه الحزن والأسف لأنه خلق الإنسان، وقال الرب امحوا الإنسان الذي خلقته عن وجه الأرض مع سائر الناس والحيوانات والزواحف وطيور السماء لأني حزنت أني خلقته)( )
فحاول فيلون أن ينزه الله عن هذه الصفات غير اللائقة والتي تدل على النقص حسب ما يرى. فخرج بمقولة: قد تكون هي الأم لمقولات بعض المتكلمين المسلمين كما سيظهر لاحقاً. وهذه المقولة هي:
إن الله لا يستفزه الغضب ولا يندم ولا يتكلم بحروف وأصوات وليس له مكان يقر فيه، وليس الله محتاجاً إلى مدة من الزمن ليخلق فيها العالم.( )
ولكن موسى لا يسعه إلا أن يستعمل هذه اللغة التي نفهمها نحن البشر ليصف لنا نظام العالم.
هذه المقدمة كانت المفتاح الذي استخدمه فيلون لتأويل صفات الله كما جاءت في التوراة وأراد فيلون أن يجعل صورة الإله منزهة عن كل نقص فقال:
إن الكائن الذي قال به أفلاطون هو يهوه إله بني إسرائيل والذي بشر به موسى، وهو إله مفارق للعالم فوق الجوهر وفوق الفكر وخارج الزمان والمكان ولا يقبل الكيف ولا يحده العقل... ولا يمكن وصفه إلا بطريق السلب.( )
يقول فيلون حسب ما يذكره د. بدوي في الموسوعة: لا نستطيع أن نضيف إلى الله إلا هذه الصفات السلبية لأننا إذا أثبتنا له صفة إيجابية فقد أضفنا إليه صفات تتعارض مع طبيعته.
يعلق بدوي: ولهذا نجد فيلون لا يريد أن يبقي على أي صفة من صفات الله بل ينعته بأنه الموجود بلا كيف ولا صفة،.. فلا يبقى له غير صفة واحدة هي صفة الوجود.
ويعود فيلون ليثبت بعض الصفات الإيجابية بكمالاتها المطلقة لا كما يوصف بها الإنسان، وهي القدرة المطلقة – الخير المطلق ويبدو هنا تأثره واضحاً بأفلاطون الذي يعتبر الإله هو الخير الأسمى( ).
الصفات عند أفلوطين والمدرسة الافلاطونية الحديثة:
حاول د. عبد الرحمن بدوي شرح صفات الإله عند أفلوطين وابتدأ شرحه بنقل ترجمة عربية لفصل من فصول التساعات.
وقام البحث هنا بالنقل مرة أخرى عن د. بدوي من موسوعة الفلسفة لبيان صفات الله عند أفلوطين:
(كل ما كان بعد الأول فهو من الأول اضطراراً إلا أنه إما أن يكون منه بلا توسط وإما أن يكون منه بتوسط أشياء أخر هي بينه وبين الأول، فيكون إذن للأشياء نظام وشرح، ذلك أن منها ما هو ثان بعد الأول ومنها ثالث أما الثاني فيضاف للأول وأما الثالث فيضاف للثاني وينبغي أن يكون قبل الأشياء كلها شيء مبسوط (أي بسيط) وأن يكون غير الأشياء التي بعده، وأن يكون مكتفياً غنياً بنفسه وأن لا يكون مختلطاً بالأشياء وأن يكون حاضراً للأشياء بنوع ما واحداً وأن لا يكون شيئاً ما ثم يكون بعد ذلك واحداً فإن الشيء إذا كان واحداً على هذا النوع كان الواحد فيه كذباً وليس واحداً حقاً وأن لا يكون له صفة ولا يناله علم البتة وأن يكون فوق كل جوهر حسي وعقلي، وذلك إنه إن لم يكن الأول مبسوطاً (بسيطاً) واحداً، حقاً، خارجاً عن كل صفة وعن كل تركيب لم يكن أول البتة. [التساعات 156:4إلى 162]
يعلق د. بدوي. شارحاً كلام أفلوطين
ففي هذا النص يعرض أفلوطين صفات الإله( ) سواء الصفات السلبية أو الصفات الإيجابية، ذلك أنه لما كان الإله لا يمكن أن يدرك إدراكاً مباشراً أعني أن تقال عليه صفة إيجابية، فإننا لا تستطيع بهذه الحالة أن ننعت الإله إلا بالصفات السلبية... ولننظر أول الأمر في صفات السلب فنجد أن الإله لا يمكن أن تكون له صورة... وليس بذي جمال بمعنى أنه لا يدخل تحت صفة أعلى منه إنما هو الصفة العليا نفسها، بل أكثر من هذا لا يمكن أن يقال عن الإله أنه جمال لأنه فوق كل جمال. وكذلك لا يمكن أن يقال عن الإله أن له مقداراً كما يمكن أن يتصف الإله بالصفات المعروفة التي تضاف إليه دائماً.( )... ولكن رغم كل ذلك فلابد لإثبات صفات السلب من تقرير صفات إيجابية لابد منها وهي أن الإله قديم. مقابل كل فان وحادث وهو ما عبر عنه باللا متناهي أزلاً وأبداً، هو واحد في مقابل الكثرة. وبعد ذلك تأتي صفات السلب.
الصلة بين نفي الصفات عند الصوفية (وبعض الفرق الأخرى) وبين النفي عند الفلاسفة
وانتقال القول بنفي الصفات إلى المسلمين تم عبر انتقال الكتب المترجمة كما بينه غير واحد من العلماء.
وأول من قال بنفي الصفات في الإسلام الجعد بن درهم الذي كان معلماً لمروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية
قال ابن تيمية في منهاج السنة:
كان هذا الجعد من حرَّان، وكان فيها أئمة الصابئة والفلاسفة.( ) وقد أنكر الجعد أن يكون الله فوق العرش. وأخذ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية عن الجعد. وأخذ الجعد عن أبان بن سمعان وأخذ أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذ طالوت من خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم.( )
وقد انتشرت مسألة نفي الصفات من جهم إلى أتباعه من المعتزلة.
ولكنها انتقلت فيما بعد حتى إلى الذين كان يقال عنهم صفاتية من الأشاعرة حيث لم يثبتوا لله حقيقة إلا سبع صفات.
واجمعوا على القول أنه تبارك وتعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا... ولا... ولا... وإذا كان نفي الصفات قد وصل إلى يهود فقد بين البحث أن رأسهم بهذا الأمر هو الفيلسوف اليهودي فيلون.
وهذا النفي بذاته هو إثبات صفات سلبية لله لم يأت بها كتاب ولا سنة.
والحق الذي ينبغي للمسلم أن يتبعه هو أن يثبت ما أثبت الله لنفسه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل صحيح من غير تشبيه ولا تعطيل واضعين نصب أعيننا أنه تعالى (ليس كمثله شيء). وعلى اعتبار أن مشايخ الصوفية وأئمتهم تبنوا في هذا الاتجاه عقيدة الأشاعرة التي كانت تسمى (الصفاتية) لأنهم يثبتون الصفات ثم نتيجة المناظرات بينهم وبين المعتزلة. في إطار ما سموه (علم الكلام) نفوا بعض الصفات وأثبتوا بعضها فكانوا متناقضين في ذلك كل التناقض ففي حين يقولون إن الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يقال له أين نجد أحدهم بقول رفعني ربي إليه مرة وأجلسني على عرشه.
وقال الآخر:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
فإذا أبصرته أبصرتني
نحن روحان حللنا بدنا
وإذا أبصرتني أبصرتنا

وقال الثالث لغراب نعق:
لبيك وسعديك والخير كله إليك.
والأصل أن مسألة الصفات تبحث في علم الكلام. ولكن الذي جعلها تدخل في علم التصوف أن كل كبرائهم كما مر عبروا عن هذه العقيدة بمنتهى الوضوح، فكان لابد من استعراض نشأتها ولو بإيجاز وبيان أن مصدرها الأساسي الفلاسفة ولعل على رأسهم الفيلسوف اليهودي فيلون الذي كان ابن ديانة سماوية وأراد أن ينزه الله فنفى عنه بعض الصفات وتلقف بعض المنتسبين إلى الإسلام هذه الدعوى فإن أحسنا الظن قلنا دون تمحيص ولا تدقيق وإن كانت الأخرى لقلنا إنه مخطط لضرب هذا الدين في جوهره وأسه الأول وهو التوحيد الذي جاءت به الرسل جميعاً.
والأمر الذي يجب الالتفات إليه هو أن مشايخ الصوفية لم يلتزموا بما أعلنوه من منهج الصفات وإنما تجاوزوه وفق منطق الفلاسفة إلى ما هو أبعد فمقولتهم بنفي الصفات مقولة عقلية لم يثبتها نص شرعي، وهم الذين قالوا بأنه لا يمكن للعقل أن يستدل على الله.
قال صاحب التعرف:
وقد أجمعوا على أن الدليل على الله هو الله وحده،... وقالوا إن العقل محدث والمحدث لا يدل إلا على مثله.
قال رجل للنوري ما الدليل على الله قال الله، قال فما العقل، قال: العقل عاجز لا يدل إلا على عاجز مثله.
وقال ابن عطاء العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية وقال أبو بكر القحطبي، من لحقته العقول فهو مقهور.
وقال: أنشدونا لبعض الكبار:
من رامه بالعقل مسترشداً
وشاب بالتلبيس أسراره
فهو في حيرة يلهو
يقول من حيرته هل هو( )

وإذا كان الأمر كذلك. فما هو دور النقل في معرفة الله. والنقل وحي من كتاب أو سنة صحيحة.
فطالب المعرفة إما أن يكون أمام عقل أو نقل أو إلهام.
وقد أبطل القوم إمكان معرفة الله بالعقل.فبقي خيارا النقل والإلهام.
فأيهما المقدم: إن قالوا بالنقل فالنقل يعني التزاما بنصوص الشريعة الغراء من كتاب وسنة. وإثبات ما أثبت الله تعالى لنفسه ونفي ما نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه من غير تشبيه ولا تمثيل وإن كان الإلهام هو المقدم ولو لم يصرَّح بذلك. فسيصل طالب المعرفة إلى نتائج أخرى غير التي قررها الكتاب والسنة الصحيحة.
وواقع الحال يشهد أن الذين زعموا باطلاً معرفته سبحانه وتعالى وصلوا إلى نتائج مغايرة تماماً لما قرره الكتاب السنة حيث وصلوا إلى القول بالوحدة وبعضهم الاتحاد وبعضهم بالحلول وبعضهم بالفناء.
وهذه الاتجاهات أصبحت اتجاهات أساسية تمثل تيارات الصوفية. في مسألة تحول النفس البشرية إلى نفس إلهية دائماً أو لفترات ومن هنا سيتحول البحث إلى دراسة هذه التوجهات أو المدارس.
منقووووووووولا