لصوفية أو
التصوف وفق الرؤية الإسلامية ليست مذهبًا،
وإنما هو أحد أركان الدين الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)، فمثلما
اهتم الفقه بتعاليم شريعة الإسلام، وعلم العقيدة بالإيمان، فإن التصوف اهتم
بتحقيق مقام الإحسان
[1] (وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
[2]، وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به
[3]،
وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المنهيات، وتربية النفس وتطهير
القلب من الأخلاق السيئة، وتحليته بالأخلاق الحسنة. وهذا المنهج كما
يقولون أنه يستمد أصوله وفروعه من القرآن والسنة النبوية واجتهاد العلماء فيما لم يرد فيه نص، فجعلوه علما سموه بـ
علم التصوف، أو
علم التزكية، أو
علم الأخلاق، فألفوا فيه الكتب الكثيرة بينوا فيها أصوله وفروعه وقواعده، ومن أشهر هذه الكتب: قواعد التصوف، للشيخ أحمد زروق، وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، والرسالة القشيرية للإمام القشيري.
انتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات
فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت
طرقا مميزة متنوعة معروفة باسم
الطرق الصوفية. والتاريخ الإسلامي زاخر بعلماء مسلمين انتسبوا للتصوف مثل النووي والغزالي والعز بن عبد السلام كما القادة مثل صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح وعمر المختار وعز الدين القسام.
نتج عن كثرة دخول الغير متعلمين والجهلة في طرق التصوف وما نتج عن ذلك
من ممارسات خاطئة عرّضها في بداية القرن الماضي لهجوم المتعلمين في الغرب
باعتبارها ممثلة للثقافة الدينية التي تنشر الخرافات، ثم بدأ مع منتصف القرن الماضي الهجوم من قبل المدرسة السلفية باعتبارها بدعة دخيلة على الإسلام.
ثرت الأقوال في اشتقاق التصوف عند المسلمين على عدة أقوال، أشهرها
[4]:
- أنه من الصوفة، لأن الصوفي مع الله تعالى كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى.
- أنه من الصِّفة، إذ أن التصوف هو اتصاف بمحاسن الأخلاق والصفات، وترك المذموم منها.
- أنه من الصُفَّة، لأن صاحبه تابعٌ لأهل الصُفَّة الذين هم الرعيل الأول من رجال التصوف (وهم مجموعة من المساكين الفقراء كانوا يقيمون في المسجد النبوي الشريف ويعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات والزكاة طعامهم ولباسهم).
- أنه من الصف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث حضورهم مع الله تعالى؛ وتسابقهم في سائر الطاعات.
- أنه من الصوف، لأنهم كانوا يؤثرون لبس الصوف الخشن للتقشف والاخشيشان.
- أنه من الصفاء، فلفظة "صوفي" على وزن "عوفي"، أي: عافاه الله فعوفي، وقال أبو الفتح البستي:
|
|
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا |
| وظنه البعض مشتقاً من الصوف |
ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً |
| صفا فصوفي حتى سُمي الصوفي |
وكرأي آخر، يقول الشيخ ابن الجوزي في محاولته التي اعتبرها علماء آخرون تقليلاً من شأن التصوف الإسلامي، ذكر في كتابه تلبيس ابليس: يُنسب الصوفيين إلى (صوفة بن مرة) والذي نذرت له والدته أن تعلقه بأستار الكعبة فأطلق اسم (صوفي) على كل من ينقطع عن الدنيا وينصرف إلى العبادة فقط.
وقد أرجع بعض الباحثين والمؤرخين المختصين بعلوم الديانات القديمة من
غير المتصوفة، الكلمة إلى أصل يوناني، هو كلمة: (سوفيا)، ومعناها الحكمة.
وأول من عرف بهذا الرأي: البيروني
[5] ووافقه الدكتور محمد جميل غازي، الذي قال: "الصوفية كما نعلم اسم يوناني
قديم مأخوذ من الحكمة (صوفيا) وليس كما يقولون إنه مأخوذ من الصوف"
[6][7].
[عدل] من حيث الاصطلاحكثرت الأقوال أيضا في تعريف التصوف تعريفا اصطلاحيا على آراء متقاربة، كل منها يشير إلى جانب رئيسي في التصوف، والتي منها:
- قول زكريا الأنصاري: التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية[8].
- قول الشيخ أحمد زروق: التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل وحفظ النظام وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول "علم التوحيد" لتحقيق المقدمات بالبراهين وتحلية الإيمان بالإيقان.[9].وقال أيضا: وقد حُدَّ التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه[10].
- قول الجنيد: التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني[11].
- قول أبو الحسن الشاذلي: التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية[12].
- قول ابن عجيبة:
التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن
من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة[13].
أصل التصوفيُرجع الصوفية أصل التصوف كسلوك وتعبد وزهد في الدنيا وإقبال على العبادات
واجتناب المنهيات ومجاهدة للنفس وكثرة لذكر الله إلى عهد رسول الإسلام محمد صلى الله عليه و سلم وعهد الصحابة، وأنه يستمد أصوله وفروعه من تعاليم الدين الإسلامي المستمدة من القرآن والسنة النبوية. وكوجهة نظر أخرى، يرى بعض الناس أن أصل التصوف هو الرهبنة البوذية، والكهانة النصرانية، والشعوذة الهندية
فقالوا: هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي. بينما يرفض الصوفية
المسلمون تلك النسبة ويقولون بأن التصوف ما هو إلا التطبيق العملي للإسلام، وأنه ليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب
بداية ظهور اسم الصوفيةقول القشيري: «اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم "الصحابة"، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين "الزهاد" و"العُبَّاد"، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادًا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم "التصوف"، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة»
[15].
ويقول محمد صديق الغماري: «ويعضد ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة المائتين: "إنه ظهر بالإسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف". وكذلك ما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" حاكيًا عن يحيى بن أكثم فقال: "إن المأمون
يومًا لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين!
رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه
بعض الصوفية". فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في "كشف الظنون" أن أول من سمي بالصوفي "أبو هاشم الصوفي" المتوفى سنة خمسين ومئة»
ظهور التصوف كعلمعد عهد الصحابة والتابعين، دخل في دين الإسلام
أُمم شتى وأجناس عديدة، واتسعت دائرة العلوم، وتقسمت وتوزعت بين أرباب
الاختصاص؛ فقام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يُجيده أكثر من غيره، فنشأ
ـ بعد تدوين النحو في الصدر الأول ـ علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلوم الحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق، ومصطلح الحديث،
وعلم الأصول، والفرائض "الميراث" وغيرها. وبعد هذه الفترة أن أخذ التأثير
الروحي يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله
بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا
هُم من ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على
سائر العلوم، من باب سد النقص، واستكمال حاجات الدين في جميع نواحي النشاط
[17].
وكان من أوائل من كتب في التصوف من العلماء:
- الحارث المحاسبي، المتوفى سنة 243 هـ، ومن كتبه: بدء من أناب إلى الله، وآداب النفوس، ورسالة التوهم.
- أبو سعيد الخراز، المتوفى سنة 277 هـ، ومن كتبه: الطريق إلى الله.
- أبو عبد الرحمن السلمي، المتوفى سنة 325 هـ، ومن كتبه: آداب الصوفية.
- أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي، المتوفي سنة 378 هـ، وله كتاب: اللمع في التصوف.
- أبو بكر الكلاباذي، المتوفي سنة 380 هـ، وله كتاب: التعرف على مذهب أهل التصوف.
- أبو طالب المكي، المتوفى سنة 386 هـ، وله كتاب: قوت القلوب في معاملة المحبوب.
- أبو قاسم القشيري، المتوفى سنة 465 هـ، وله الرسالة القشيرية، وهي من أهم الكتب في التصوف.
- أبو حامد الغزالي، المتوفى سنة 505 هـ، ومن كتبه: إحياء علوم الدين، الأربعين في أصول الدين، منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين، بداية الهداية، وغيرها الكثير. ويعد كتاب إحياء علوم الدين من أشهر -إن لم يكن الأشهر- كتب التصوف ومن أجمعها.
وشهدت الصوفية بعد جيل الجنيد قفزة جديدة مع الإمام الغزالي خاصة كتابه إحياء علوم الدين محاولة لتأسيس العلوم الشرعية بصياغة تربوبة، تلاه اعتماد الكثير من الفقهاء أبرزهم عبد القادر الجيلاني
للصوفية كطريقة للتربية الإيمانية، ويبدو أن الجيلاني وتلاميذه الذين
انتشروا في كافة بقاع المشرق العربي حافظوا على الجذور الإسلامية للتصوف
بالتركيز على تعليم القرآن والحديث مقتدين بأشخاص مثل الحارث المحاسبي، والدليل على ذلك أن حتى ابن تيمية رغم الهجوم الضاري الذي يشنه على الصوفية في عصره، لا يرى بأساً في بعض أفكار التصوف ويمتدح أشخاصا مثل الجيلاني وأحمد الرفاعي. وينسب المؤرخين لهذه المدارس الصوفية المنتشرة دورا كبيرا في تأسيس الجيش المؤمن الذي ساند صلاح الدين في حربه ضد الصليبيين.
\ظهور التصوف كطرق ومدارس