"ما أصل الكون؟" هذا السؤال الذي يبدو للوهلة الأولى على درجة كبيرة من البساطة والعفوية، والذي يجري أحيانا على لسان الأطفال، يعتبر في الواقع من أكثر الأسئلة الفلسفية عمقا وإشكالا، وقد شغل العلماء والفلاسفة وفقهاء اللاهوت منذ خمسة وعشرين قرنا. قد يحيل السؤال بدْءًا إلى إشكالية حرجة. فالكون، باعتباره "كل الموجود"، لا يمكن أن يصدر من "أيْنِيّةٍ" خارِجَهُ، وهذا موقف علم الكونيات المعاصر.
ومع ذلك فإن معنى السؤال تغيّر تماما: فالـ" أين" التي نحن بصددها تحيل في الواقع إلى مسألة بداية الكون وتطور تركيبته والتساؤل عن "من أين يجيء الكون ؟" هو البحث في معرفة حالات الكون السابقة، أي تلك التي سبقت ما نراه اليوم. ولا تعدو الأجوبة التي يقترحها علم الكونيات المعاصر، - كما سنراه لاحقا – غير سرد لتاريخ الكون؛ تفاصيل لأحداث متتالية لتحولات شملت " الموجود".
وعلى كلٍّ، فإذا كان العلماء يعرّفون الكون باعتباره "كل الموجود"، فذلك لأنهم لا يتصورون، في تقصّيهم للعالم، سوى شكل واحد للكينونة ذاك المتعلق أساسا بالمادة، أما الفلاسفة واللاهوتيون المُوَحِّدون فإنهم يرون أن السؤال حول نشوء الكون يبقى أساسيا تماما إذا ما طرح في صيغته الطبيعية والبسيطة. فالكون أو الكوسموس أو العالم (ثلاثة مصطلحات تكاد تكون مترادفة، لكنها تستعمل في أنساق مختلفة) من وجهة نظرهم، هو "خَلْقٌ " يصدر بالضرورة عن خالق موجود، وهذه الصفة واحدة من بين تلك الصفات التي يَصْدُر "فعل" الله الأحد من خلالها، وبها يُعْرَفُ.
إن الذات الكونية الموصوفة بالنسبية وبالارتباط بغيرها، تساهم في ذات الخالق المتّصف الأوحد بالإطلاق وبالاستغناء عما عداه.
فالله ليس ذاتًا فحسب (أو بالأصح "ماهية") بل هو أيضا الوجود. إن الإشكال المطروح هنا ليس في استكناه الوجود الواجب للحق، بل في فهم سببية الخلق، بقطع النظر عن احتماله. يأتي الكون إذا من مكان ما، أو بأكثر دقة، يَصْدُرُ عن أَحَدٍ على اعتبار أن المنظور التوحيدي يعلمنا أن الله ليس فحسب ذاتا مُتَعالٍ مكتفٍ بذاتيته، بل أيضا ككينونة.
الله أصل الوجود:
يشترك علم اللاهوت في الديانات التوحيدية الثلاث في فكرة أن الوجود مؤسس على معطى الوحي. وهو يأخذ عند المفكرين المسلمين شكل كتاب: هو القرآن، الذي يعتبر - حسب وجهة النظر الإسلامية - كلام الله الذي نقله النبي محمد بكل أمانة. وبقراءة هذا الكتاب والتأمل فيه وفي تفسيراته الملهَمَة التي تضمنها حديث النبي، حاول هؤلاء تحديد علاقات الله مع العالم. فالإله المتكلم في القرآن هو عينه الله الأوحد، وهو نفسه إله اليهود والنصارى، مُنزَّهٌ ومتأصِّل في الآن نفسه.
فالله، من جهة ماهيته المطلقة مستحيل الإدراك. صحيح أنه لا يشبه العالم إطلاقا، ولكنه أيضا حاضر وفاعل فيه، يراقب ويسمع ويتكلم. ولعله – وبشكل مفارق – بسببٍ من تعاليه المطلق يستطيع الفعل في العالم دون التأثر به، وبسببٍ من كونه "ليس كمثله شيء" يمكن أن يكون في الآن نفسه في غاية البعد وأقرب إليك من حبل الوريد. وفي الاعتقاد الإسلامي، فإن الأسماء الحسنى التي يصف الله بها ذاته في القرآن هي نفسها الرابط بينه وبين العالم، وهي التي تمكِّنُنا من معرفته ومعرفة أنفسنا في نفس الوقت، ذلك أن العديد من أسماء الله الحسنى تدل على أفعال الله التي هي في علاقة وطيدة مع أصل الكون:
هو المبدئ (الذي يبدأ الخلق)، وهو الذي يقضي وينشئ، وهو المقدّر، وهو الفعّال لما يريد، هو وهو الخالق البارئ.
حيث تحيل بعض هذه الأسماء بشكل صريح إلى فعل الأمر الذي يصدره الله تعالى إلى الكائنات والأشياء، فعل التدبير والتنظيم لمادة موجودة أصلا. فالله يتصرف "كخالق من حيث أنه" مُقدِّر. وقد توحي بعض الآيات القرآنية بوجود "شيء آخر" قبل خلق عالمنا الحالي، قال تعالى:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها.1
وهناك صفات أخرى تدل على فعل أكثر قطعية من مجرد "إظهار الوجود". فالله هنا هو "المُوجِد". وفي هذا السياق يذكِّر القرآن بخلق العالم في ستة أيام: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها 2
ولكننا نجد آية تكتسب أهمية أساسية في تحديد المعنى اللاهوتي للخلق تقول: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون 3 . وقد أجمع المفسرون، وهم يمثلون مرجعية في الإسلام، على تأوُّلِ هذا "الخلق من غير شيء" كما يلي:كان الله في حين من الدهر موجودا، ولمّا يوجد العالم بعدُ. وقد ساد هذا الرأي باعتباره الأكثر مطابقة للنظرية الميتافيزيقية حول الله الأوحد القادر العالم، بالرغم من اعتماده على آية قرآنية وحيدة.
إن الأصل الجذري للعالم لا بد أن يرتبط ببداية في الزمن. وقد تبنّت أهمّ التيارات الكلامية الإسلامية موقف الخلق الزمني هذا.
إن علم الله وقدرته ينطق بهما أمرُهُ، عن طريق كلمته التي بها يخلق:إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .4 وفعل الأمر هنا (كُنْ) هو فعل حمَّال للعلم بالإمكانيات المضمَّنَة في المخطط الإلهي المتعلق بالخلق، وبالقوّة التي تمكن الله سبحانه من جرّ هذه الممكنات خارج العدَم. وبدون الترتيب الأصلي فإن العالم يبقى خارج الوجود. والمخلوق الذي عجز عن الاكتفاء بذاته بعد عملية الخلق، كان دائما – إذا ما أراد البقاء ضمن الوجود - بحاجة إلى الاعتماد على الله، الملك5، الغني 6 الصمد 7. وبالنتيجة، فإن الفعل الإلهي اللازمني يثبت العالم باستمرار داخل إطار ما يسمّيه التراث الإسلامي بــ" تجديد الخلق". والوحي نفسه، بما هو تمظهر لكلام الله، يمكن تأويله على أنه خلق جديد. والله، من خلال كلامه، لا يكتفي بالخلق، بل يقدّم أيضا الخلاص.
وهناك تماثل عميق بين العالم ذاته أين تتجلّى آيات الله، وبين نص الوحي الذي يكشف فيه الله عن آياته. فالعالم المخلوق شبيه بالكتاب الذي يوجب على المؤمن الإطلاع على حب الله وحكمته، كما أن الكتاب الموحى شبيه بالعالم الذي يجب على المؤمن أن يتدرب فيه على التنقل واختيار الوجهة. خلق الله إذا "كتاب التكوين" كما خلق "كتاب التدوين"، كما جعل كلا منهما يحيل على الآخر. وقد أصبح هذا التماثل بين كتاب العالم ( liber mundi ) وكتاب الوحي (liber scripurae ) موضوعا مكررا في الفكر الغربي.
التقاء الفكر الديني بالعقل:
ولكن ماذا يحدث لو أن كتاب العالم وكتاب الوحي اختلفا فيما يوردانه؟ ثم كيف يمكن التعامل مع التناقضات المحتملة بين البحث في الكون الذي يدعونا نص الوحي إلى الأخذ به لتمجيد معرفة الله وقدرته، وما يقوله كتاب الوحي حول هذا الكون؟
أثناء الانتشار الأول وبالتحديد في فترة الخلفاء، دخلت الحضارة العربية الإسلامية في علاقة مع الموروث الفلسفي والعلمي للإغريق. حيث قابل الفكر الديني خطابا حول العالم مؤسَّسًا على التفكير العقلي. وكان هذا الخطاب، ذو البصمات الأرسطية والأفلاطونية المحدثة، يدعو إلى الاعتقاد بأزلية العالم كنتيجة ضرورية للبحث العقلي.
قدم أرسطو في فلسفته الميتافيزيقية ما يعتبره دليلا على أزلية العالم، مستنتجا أن البدايات الزمنية تؤدي إلى نتائج متضاربة. لذلك، وجدت الفلسفة الإسلامية – التي طرحت المواصلة في هذا المسعى وتطويره - نفسها في تعارض صارخ مع الفكر الكلامي الذي كان يدعو إلى اعتبار البداية الزمنية للعالم نتيجة طبيعية وحتمية للخلق. وكانت الشخصيتان الرمزيتان لذلك النقاش هما: الغزالي وابن رشد (المعروفان لدى فلاسفة ولاهوتيي العصور الوسطى الأوروبية بالغزال وأفيرويس).
وما يلفت الانتباه في مناقشات هذين الرمزين على الرغم من عامل الانفصال الجغرافي والزمني بينهما (فالأول كان يعيش في بغداد، وكان قد مضى على وفاته عشرون سنة عندما ولد ابن رشد في الأندلس) اقتناعهما الشديد بأن كتاب العالم وكتاب الوحي لا يمكن أن يختلفا، لأن مصدرهما واحد، ولا يمكن للخطاب العقلي في هذا التصور أن يتناقض مع خطاب الوحي، وما يبدو من خلاف بين الكتابين فمرده قطعا إلى خطإ أو سوء تفاهم بين الفريقين.
وبالمقابل، فان الخلاف بين الغزالي وابن رشد عنى رسم الحد بينهما. حيث شدّد الغزالي على أن النص الموحى يقول بالفعل بفكرة البداية الزمنية للعالم، واعتبر الخطابات الفلسفية التي تؤمن بأزلية العالم ملطخة بالأخطاء.
ولهذا السبب فإن دراسته الفلسفة كانت فقط بغاية بيان أن ما توصل إليه الفلاسفة من نتائج حول قضايا الكون كانت متناقضة، وذلك بحسب القواعد نفسها التي يلتزمون بها في عملهم.
وفي المقابل فإن ابن رشد يقبل ما توصل إليه الفلاسفة حول أزلية العالم (وبخاصة أعمال أرسطو التي خصص لها تعليقاته الفلسفية). وتأسيسا على ما سبق يكون اللاهوتيون هم من أخطأ في قراءتهم للخلق الزمني كما ورد في القرآن.
يرى ابن رشد أن الله هو الذي خلق الكون، ولكن بشكل أزلي. ولا يمكن لنا حسم ما يبدو من اختلافات بين العقل والوحي إلا بقبول تأويل تلك المقاطع من النص المقدس التي توحي بالخلق في الزمان، حتى لا نتردى في المعصية ونتقوّل على الله الكذب الصراح.
وكان على الغرب اللاتيني أيضا - وهو يكتشف الفلسفة الإغريقية في بداية القرن الثالث عشر عبر الترجمات العربية نحو اللاتينية - أن يواجه الصراع الكامن بين النتائج التي توصل إليها العقل في تقصّيه للعالم، وبين ما يقوله الوحي أو ما يظهر منه. وقد مثل علم الكلام أحد الاجتهادات التي حاولت جمع ومَفْصَلَة المقاربتيْن؛ إن الأزلية والأصل الزمني للعالم عند توماس الإكويني مشكل حيادي، لا يُـحَـلُّ فقط عن طريق قوى العقل وحده، فالوحي يجيء لحلّه، بما يعرَفُ بالبداية الزمنية للعالم.
وتظهر هذه التركيبة الكلامية، وهي آخر ومضات القرون الوسطى، وبشكل مبهر في استكشاف الكون الذي اقترحه دانتي (Dante Alighier) في مسرحيته "الكوميديا الإلهية": حيث يجتاز كاتب البندقية الكون المحكوم بالفيزياء الأرسطية وعلم الفلك البطليموسي، غير أن رحلته هي أيضا بيان روحي يلفّعه الوحي المسيحي. وتشترك هذه الصورة للكون مع جوانب عدّة للعالم كما يقدمه المنظور الإسلامي.
لكن زمن التركيب مضى، ومعه اكتمل مفهوم الكون، الذي قاس العالم الفلكي المسلم الفرغاني قطره وقدَّرَه بـ125 مليون كيلومتر اعتمادا على قاعدة لبطليموس الفلكية، والذي أرّخ علماء اليهود ورجال الدين المسيحيين بدايته بعام 4004 قبل ميلاد المسيح (بالاعتماد على علم الأنساب ألتوراتي). واختفى هذا النوع من التفكير تدريجيا. وفي عام 1543 جعل نيكولا كوبرنيك (Nicolas Copernic) الشمس مركز العالم وحط من قيمة الأرض بأن ألحقها بنفس مرتبة بقية الكواكب. غير أن هذا المفهوم انتهى هو الآخر وذلك منذ اكتشاف خط انفصال المياه بداية من القرن السابع عشر بأكثر وضوحا أن النجوم لم تكن جميعها متموقعة في دائرة الكواكب الثابتة، ولكنها كباقي الكواكب السيارة الأخرى منتشرة في فضاء رحب، وربما كان لانهائيا. هذا الفضاء الرحب منحه نيوتن(Newton) صفة مسرح ظواهر الديناميكية. غير أن نيوتن كان يعتقد هو نفسه أن الكون تم خلقه في زمن ماض قريب.حيث كان في حاجة إلى عمر الكون الصغير نسبيا ليفسر السبب الذي منع كتل الكون جميعها من التجمع بعدُ في نقطة واحدة مشدودة إلى تأثير الجاذبية الكلية.
ولا شك أن الاكتشافات الجيولوجية هي التي دفعت بشكل حاسم إلى التشكيك في موضوع قصر عمر الكون المستنتجة من أنساب الأنبياء التوراتيين.حيث إن انتصاب وانجراف الجبال، وبقايا عظام الحيوانات المنقرضة المدفونة في التراب، تحيل إلى سلّم زمني أبعد من ذلك بكثير.
وفي أثناء القرن التاسع عشر، اختفت فكرة البحث عن بداية للكون من حقل العلم، وأصبح الموقف السائد عند العلماء هو أن الكون لا متناهي وأزلي، أي لا بداية زمنية له. أما المادة فهي موجودة منذ البدء. لذلك أصبح السؤال بالأحرى: هل يمكن لعلم الكون أن يجد له مكانا في حقل البحوث العلمية؟
خطاب علم الكونيات المعاصر:
على أن الأوضاع ستتغير جذريا مع الثورة العلمية للقرن العشرين. فنظرية الكونيات المعاصرة المسماة بالانفجار الكبير الساخن Big Bang Hot، التي صاغ معادلاتها ألكسندر فريدمان (Alexandre Friedman) - اعتمادا على أعمال أينشتاين(Einstein) – والتي طورها من بعده القس جورج لومتر (Abbé George Lemaitre)، أصبحت هي الإطار الأساسي لفهم الملاحظات الفلكية الراهنة. حيث يقدّر هذا النموذج وبشكل عام أن الفضاء الكوني في مجمله لا يمكن أن يكون ساكنا، فهو إما في حالة تمدد أو في حالة انكماش. وقد أكدت ملاحظات إدوين هابل (Edwin Hubble) حول ركود المجرات، والتي عرفت منذ ذلك الحين انتشارا كبيرا ومتسارعا بفعل تطور تكنولوجيا الوسائل البصرية، بشكل قاطع أن الفضاء هو فعلا في حالة تمدد. وإذا ما عدنا بشريط التمدد القهقرى، فإننا سنكتشف طبيعيا فكرة ما يشبه انفجارا أوليا (وهو الذي يطلق عليه القس لومتر "الذرة البدائية"). ويمكننا التغاضي عن فكرة البداية لهذه الحقبة من التمدد بافتراض وجود دائم للمادة لملء الفراغات التي تركها ذلك الانفجار. بينما يقترح معارضو نظرية الانفجار الكبير Big Bang تصورا آخر يعتمد على نموذج يعرف بـــ "الحالة المستقرة "(Steady state model). وكان لا بد من انتظار حلول عام 1965، السنة التي تم فيها اكتشاف الأصل المنتشر للكون الدال على الحقبة التي كان فيها الكون ساخنا جدا وكثيفا ومعتّما، لتفرض نظرية الانفجار الكبير الساخن نفسها. صحيح أن هذه النظرية لم تمكنّا من العمر الحالي لحقبة التمدد، ولكننا نستطيع قياسه اعتمادا على سرعة التمدد وقوة تسارعه(أو تباطئه)، وهي عملية ممكنة عند علماء فيزياء الفلك، على النحو الذي صار ُيقدر معه هذا العمر اليوم بحوالي أربعة عشر مليار سنة. يفترض هذا النموذج أن انطلاق حقبة التمدد تبدأ من تميّز بدئي، يوافق ما يمكن أن نسمّيه باللحظة الصفر، حيث كان الكون فيها في غاية الكثافة والحرارة. وقد أثار هذا التميّز البدئي عددا من الأسئلة، رأى فيها المعارضون لنظرية الانفجار الكبير عبثية هذه النظرية.ويجب التذكير هنا أن معادلات فريدمان - لومتر هي التي تضمنت الإشارة إلى هذا التميز، غير أن هذه المعادلات لم تعطينا، أو ليس بعدُ، وصفا دقيقا لحالة الكون إذّاك. وفي الحقيقة، فإن أبعد نقطة زمنية يمكن للنظريات الفيزيائية الكلام فيها هي تلك الموافقة للسلّم الزمني الذي وضعه بلانك (Planck) أي التي تتحدث عن لحظة زمنية ( 10-13 من اللحظة) بعد التميّز البدئي. أما وصف ما وقع قبل هذه اللحظة فذلك يتطلب الالتجاء إلى نظرية تجمع بين النسبية المطلقة والفيزياء الكمية، وهي نظرية لم نتوصل لها بعد. إن أول حدث يمكن وصفه بعد سلم بلانك هو حدث التضخم: وهو عبارة عن انتشار متسارع للكون سبَّـبَته مساراتٌ الجسيمات الأولية، التي تفسر الانفجار الأصلي "Bang"، الذي ولّد الانشار الحالي، كما يفسر أصل الهياكل الكبرى للكون الحالي، وبشكل خاص تركيبة المجرات. وبعد التضخم بدأ تمدد الكون المتباطئ بفعل وجود المادة، تمددٌ تميزَ بتحلية وبرودة "الحساء الأساسي"، وتكوّن العناصر الأولى المشكلة للمادة العادية (3 دقائق بعد لحظة التميز البدئي). عندها، أصبح الكون شفافا بعد أن كان معتّمًا، وصار يُصدر أجساما سوداء نلتقطها الآن على شكل " صوت القاع": ذبذبات ملليمترية للكون. أصبح بالإمكان مراقبة بنية الكون في حالته تلك، وهو إلى الآن على حالته في شكل مجرات تتجمع في مجموعات وأنظمة، تضبطُ هي نفسها في مناطق على شكل تلافيف وأسلاك تفصل بين فراغات كبيرة. إن وصف مختلف مراحل التطور محكومة بقوانين الحفظ، وتلك المتعلقة بالمادة –الطاقة بشكل خاص. لذلك فإن نظرية الكون الحديثة غير قادرة على تصور ظهور "شيء ما" انطلاقا من "لاشيء"، في حين أنها قادرة تماما على وصف ظهور شيء جديد عن شيء آخر. ومن المهم التذكير هنا، أنه على الرغم من تشابه عرضي يرد في بعض المفردات (كالتذكير مثلا أن الكون الأصلي كان محكوما بشعاع يحيلنا إلى مناقشة الوحدة الإضائية لوكس التي تحدثت عنها التوراة fiat lux biblique) فإن نظرية الانفجار الكبير لا علاقة لها أصلا بعقيدة الخلق. ويكشف لنا تاريخ هذه النظرية كيف اعترض عليها بعض العلماء لما اعتبروه نبرة توراتية كانت تحملها، أو كيف رأى فيها البابا يوحنا الثاني عشر XII Pie دعم علمي للإيمان، (رغم أنف القديس "لومتر" وهو أحد مخترعي النظرية القائمة على الفصل بين هذين النوعين من الخطاب). ولا يمكن أن يكون هناك "مصالحة" بين العلم والدين يكون ثمنها توافق سطحي، يضع الخطابين في خط متوازي، ويجعل لهما تشابهات والتقاءات وتأكيدات متبادلة لما جاء به كل منهما. إن العلم والدين يختلفان بشكل عميق في مناهجهما كما في أهدافهما. وكما قال "غاليلو" (Galilée) من قبل، فإن هدف الدين ليس هو معرفة حال السماء، بل كيف نذهب إلى السماء. أما فيما يتعلق بالإسلام، فرغم أنه لم يعرف حدثا مشابها لقضية غاليلو، لكنه عرف ركودا فكريا اعتراه بعد فترات الازدهار التي رأينا. ويبدو أن الخروج من هذا الوضع أمر صعب. ولحثِّ الفضاء الإسلامي على تبني الدخول إلى عصر الحداثة – سواء عن طريق أسلمة الحداثة أو عصرنة الإسلام - يقترح الكثيرون نوعا من التوافق تصبح بمقتضاها "الظواهر العلمية" المكتشفة، تجد أصولها كما يزعمون في القرآن ،أداة لتسويق الاعتزاز "بالهوية الإسلامية" ودفاعا تبشيريا يُعتقَد أنه ملائم لعالم اليوم. تهتم التطورات الأكثر راهنية في مجال علم الكونيات المعاصر بالكون الأصلي، وذلك في إطار نظريات ما يسمى "التوحيد الأكبر" وبالأساس نظرية "الحبال القوية جدا super cordes "، التي يمكن أن توفّر الإطار المثالي لتحديد حجم نظرية الجاذبية، وبالتالي سبر سلم بلانك. ولا زلنا نبحث في انتقال المادة من حالة إلى أخرى. ولا يزال بعضهم يحدس أن الكون يمكن أن يكون قد ظهر في صورة تقلبات للخواء الكمي، المُكوَّن من بحر من الجزيئات الافتراضية. وعلى كلٍّ، فإن هذا الخواء الكمي ليس هو العدم. إنه ليس "لاشيء"، إنه "شيء".
لماذا يوجد "شيء"، بدلا من "لاشيء" ؟ يساعدنا هذا التذكير على إدراك أن خطاب علم الكونيات المعاصر (الخاص بتطور الكون عبر المرور بأطوار عدة متعاقبة تشبه الآن تعقيدا متزايدا)، لا يُمَكِّنُ من الإجابة عن السؤال الشهير الذي طرحه الفيلسوف ليبنيز(Leibniz):" لماذا يوجد شيء بدلا من لاشيء؟". إن سؤالا كهذا ليس من مشمولات علم الفيزياء بل الميتافيزيقا. وقد قدمت الديانات الكبرى إجابة أو محاولة إجابة لهذا التساؤل. لماذا خلق الله من عدم خلقا كان معلوما من قَبْلُ في علمه الشامل؟ يمكننا التأمل في الإجابة التي يقترحها علينا حديث قدسي (وهو وحي إلهي دون أن يرقى إلى مرتبة القرآن) لم يرد ذكره في كتب الحديث، ولكنه يتداول كثيرا لدى المتصوفة، ويتعلق بإيراد سبب للخلق. يقول الله فيما يرويه عنه نبيّه: "كنتُ كنزا مخفيا، وأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ليعرفوني" تكمن علّة الخلق أساسا في حب الله لخلقه، وفي هذه الرغبة الإلهية في وجود معرفة له من غيره. كما في فيض معرفي يتنضّد إلى معرفة الله المطلقة بذاته وفي ذاته. وبناء على هذا الأساس، بنى المتصوفة وعلى رأسهم ابن عربي الملقب بـ"القطب" ميتافيزيقا الكشف الإلهي، حيث لا يوجد في مجال الكينونة سوى الله وحده. يريد الله أن يُعرَفَ عبر حجاب الكائنات والأشياء التي لا توجد في ذاتها، وليست سوى نزوع طبيعي لتقبّل بعض الصفات الإلهية، وهي تتجلى في هيئة عوارض كثيرة في عين الذات الحقّة، الله. تقدم ميتافيزيقا وحدة الوجود الإطار الشامل لرؤية للعالم تقوم على أن لكل شيء معنى، لأن كل شيء يصبح مَحْمَلا لتفكّر الله في ذاته. ويصبح الإنسان في ذلك " صفاء مرآة العالم"، لأن وجوده ذاته هو الذي يتيح لله معرفة ذاته معرفة تامة من خلال خلقه. إن التعدد والتنوع الهائلين للأشكال والبنى التي كشف عنها العلم تشهد – بهذا المعنى الميتافيزيقي التأملي - على ثراء وعمق المعرفة الإلهية اللامحدودة التي تشع وتتجلى عبر الظواهر الكونية. وقد أُثرِيَتْ التطورات الحالية لعلم الكونيات المعاصر بإشكالية مركّبَة، تتلخص في تسمية "المبدأ الأنتروبي". ويحصي هذا الأخير المصادفات الكونية العديدة التي مكّنت من ظهور التعقيد (تكوّن المجرات والنجوم والكواكب، ظهور الحياة)، كما يعلن أن الكون يحتوي تماما على الخصائص المطلوبة لوجود هذا التعقيد، بل وأيضا لوجود الإنسان نفسه (ومن هنا جاءت كلمة "أنتروبي" أو آدمي anthropique ).على أن هذا المبدأ يشدّ اهتمامنا بدوره إلى مبدأ التناغم الكوني ( fine-tuning) البعيد الاحتمال الذي سبق ظهورنا في الكون. وانطلاقا من هذه الملاحظة التي تجد حولها شبه إجماع، يمكن أن نقف أحد ثلاثة مواقف: الموقف الأول يقضي بعدم الاستغراب، بأي شكل من الأشكال، من هذه المصادفات والقبول بأن ذلك من نتاج عملية إنتقائية بسيطة ولكنها ضخمة. إذ لو كانت خصائص الكون مختلفة قليلا لما أمكن ظهور التعقيد، ولَمَا تمكَّنَ أحدٌ من التأمل في كونٍ بهذه الأهمية. ويجب القبول، والحال هذه، بفكرة أن العلم عاجز على فهم سبب ذلك، لأننا عاجزون على تحديد سبب للصدفة، حتى وإن أحسنت هذه الأخيرة - من وجهة نظرنا - صنع الأشياء. ولكن ألا يؤدي ذلك إلى التخلي عن السعي إلى الفهم، وذلك معاكس تماما للبحث العلمي؟ الموقف الثاني يذهب إلى تأويل هذا " التدقيق المحدد "باعتباره العلامة الفاصلة التي ترسم قصور الفهم السببي، والى استدعاء مستلزمات التفسير الغائي، هذا المخرج الذي حكم عليه العلم الحديث سلبا منذ البداية. يمكن لهذا الـ fine tuning أن يترجم مثلا وعي المادة بذاتها (ضمن مقاربة الطبيعة الحلولية)، أو الأثر الخالص لله من وجهة النظر التأليهية، وهي المقاربة التي تدافع عنها الديانات التوحيدية الثلاث في العادة. هنا أيضا لا بد من التخلي عن التفسير العلمي وقبول أنواع أخرى من التبريرات. أما الموقف الثالث فإنه يعمد إلى تفسير ما لوحظ من "تناغم دقيق مرهف" بفعل الصدفة المحض. غير أن هذه الصفة لا بد أن تكون قد تدخلت عدة مرات، لأن الكون الذي نحيا ليس إلا جهة من مجموعة ضخمة تُدعى "الكون المتعدد". ونفترض أن لكل جهة من هذه المجموعة (لنقل لكل كون) خصائص مختلفة، ولا شك أن أغلب هذه الأكوان عاجزة تماما عن احتواء بنيات معقدة. وهي بذلك تخفي والى الأبد رتابتها. فقط هي الأكوان الجامعة لعدد من الخصائص المتميزة جدا هي القادرة على إيواء ملاحظين، بمجرد الاعتماد على حدث الانتقاء. إننا نعيش في أحد هذه الأكوان المضيافة. يبدو مقترح "الكون المتعدد " جذابا خاصة وهو الذي تنصح به بشدة نظريات التوحيد الأكبر الحالية، والتي تسعى كما تشير إلى ذلك تسميتها إلى توحيد مجموع الجزيئات والمتفاعلات ضمن منظور شامل. يعني ذلك، أن القوانين الأساسية بالفعل توجد في الكون البدائي وهي ذات طاقة عالية جدا. وعندما يدخل هذا الكون في حالة التمدد والبرودة، تصبح القوانين الناشئة وذات الطاقة المخفضة قوانين فرعية، حُدِّدَتْ بعض خصائصها اعتباطيا من فضاء لآخر في الكون، وذلك عبر مسارات نسمّيها تفتيت التماثل. يتشكّل الكون المتعدد من عدد لا محدود من الأكوان المحكومة بقوانين فرعية مختلفة. وتخضع هذه النظريات اليوم إلى دراسة مفصلة، ونأمل تجريبها في السنوات القادمة. يتعلق الأمر هنا بأعمال علمية قادنا إليها تطور معرفتنا بالقوانين الأساسية للطبيعة. ولا بدّ لنا من الاعتراف أن سعينا لإمكانية الخلاص من فكرة "التناغم المرهف" شكّلت اهتماما إضافيا بتطويرها. أما اليوم، فقد صار بالإمكان تجريب هذه النظريات ودحضها بالوقائع. ووجب البحث إذن عن مسارات أكثر تعقيدا "لتفسير" هذا التناغم المرهف. أما إذا تأكدت فعلا هذه الصيغة أو تلك للنظريات التي عرضناها، وإذا اكتشفنا أن النظرية الأساسية للمادة والتفاعلات تولِّد هذا النوع من الصدفة الكونية لنشأة العالم، فإن اللغز يبقى دائما تامًا. عندها لا يبقى أمامنا غير أحد احتمالين: إما أن تكون النظرية الأساسية هي الوحيدة الممكنة (وتصبح بالتالي ضرورية)، أو نقول بوجود نظريات أخرى ممكنة غيرها، (فتصبح هي عارضة). إذا اكتشفنا أن النظرية الأساسية لازمة (منحى يشك فيه الكثير، لأن النظرية لا بد أن تتضمن في داخلها علّة وجودها)، أضحى ظهورنا – بشكل من الأشكال – مبرمجا منذ البداية عبر الكون المتعدد. أما إذا لم تكن هي الوحيدة الممكنة، وبعبارة أخرى إذا كانت عارضة وليست أساسية فكيف نفهم إذًا أن هذه القوانين الأساسية المعتمَدَة بالفعل تكون هي نفسها تلك التي لها القدرة على توليد التعقيد، ليس في المرة الأولى، ولكن عبر عمليات القُرعة المتعددة. ألا نجد في عمق هذا المنحى اختيارا يجب تعليله؟ والالتجاء إلى الغائية ألا يمكن أن نقول إنه الاحتمال وارد؟ إن الإمكانية الوحيدة لاجتناب اللجوء في كل مرة إلى الغائية الكامنة في الطرف البعيد للآفاق العلمية الحالية، هي اعتماد موقف متطرف، والقول أن كل القوانين الأساسية الممكنة ضرورية، أي أنها تحققت بالفعل في مكان ما من الكون المتعدد. يصبح القانون الأساسي، الذي يحكم منطقتنا من الكون المتعدد بمختلف عوالمه ذات القوانين الفرعية، عاديا لا شيء يميزه. هذا الموقف يقترحه "ماكس تيقمار"(Max Tegmark) ويسمّيه "النظرية النهائية للوحدات". محتوى هذه النظرية يتمثل في القول بجود نظير لكل بنية رياضية في العالم الفيزيائي. ولذلك يصبح العالم طبقا لهذا الطرح قابلا لأن يتحول إلى معطيات رياضية. وإذا كان القانون الأساسي الذي يحكم منطقتنا من الكون المتعدد يسمح، عبر الصدف الكونية، بظهور أكوان ذات ظروف مناسبة، فإن الأمر لا يعدو أن يكون، مرة أخرى، ناتجا عن مجرد حدث انتقائي. أما باقي القوانين الأساسية الموجودة في المناطق الأخرى من الكون المتعدد، فإنها عاجزة لا شك على إنتاج حالة التعقيد. ويبقى السؤال مطروحا برمّته: معرفة ما إذا كانت هذه الفكرة قادرة على توليد نبوءات قابلة للتحقق. لا تزال هذه الأفكار افتراضية، وهي بعدُ محصورة داخل الحلقات العلمية. أما عن النتائج المتمخضة عنها (أو غياب تلك النتائج أصلا) فإنها لم تستخلص بعد من وجهة النظر اللاهوتية. ولا بد من السماح مبدئيا بالإشارة إلى أن الصيغ المختلفة للكون المتعدد تعمل باعتبارها روايات مختلفة للفضاء اللانهائي.
لقد أنتج اليهود والمسيحيون والمسلمون تعاليمهم اللاهوتية الكلاسيكية في فترة كانت فيها تصور الكون تعتمد على العلوم الإغريقية والهيلينية، وبخاصة فيزياء أرسطو وعلم الهيئة عند بطليموس ،والتي تجعل منه كونا محدودا متناهيا، أشبه بفقاعة يحتويها الله. وقد أدى انفجار هذه الفقاعة، بالقياس إلى جملة الاكتشافات العلمية، إلى إعادة تقييم لاهوتي أساسي.
وكيف بنا إذا كان الفضاء لامتناهٍ، ولكن عوض أن يكون ذلك لاتناهي في البنى التي تعمّر فضاء خاضعا في كليته للقوانين (لٍـنَـقُلْ المجرات التي تضم نجوما وكواكب)، نجد عندنا لا تناهي ذي نوعية بنيوية. سيقول المسلم بكل فرح أن ذلك يزيده إجلالا لعظمة الله، ويرى فيه رحمة الله التي وسعت كل شيء كما ورد في القرآن الكريم.