أولاً: عفوه عن مشركي مكة عام الفتح( رمضان 8هـ/ يناير 630 م )
يضرب الكاتب الهندي "
مولانا محمد علي"، مثالاً بعفو النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ عن مشركي
مكة بعدما فعلوا به ما فعلوه.. فيقول:
"والمكيون الذين أخضعوه وأصحابه ، دائماً وأبداً ، لأشد التعذيب بربرية؛ منحهم عفواً عاماً" [1] !
ويقول " اللورد هيدلي" ، معقباً على عفو النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ في فتح مكة:
"عفا بلا قيد ولا شرط عن
كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذبوه ! آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة !
وأغنى فقراءهم، وعفا عن ألد أعدائه ؛ عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت
رحمته..!" [2] ..
يقول "كولن" :
"تأملوا معي كيف أنهم
أخرجوه هو ومن يقف معه من بيوتهم إلى منطقة صحراوية معلنين عليهم المقاطعة،
ومعلقين بنود هذه المقاطعة الشريرة على جدار الكعبة، وكانت تقضي بعدم
التعامل معهم بيعًا وشراء وعدم التزوج من بناتهم أو تزويج بناتهم لهم.
وقد دامت هذه المقاطعة
ثلاث سنوات بحيث اضطروا إلى أكل العشب والجذور وأوراق الأشجار، حتى هلك
منهم الأطفال والشيوخ من الجوع دون أن تهتز منهم شعرة، أو تتحرك عندهم
عاطفة رحمة. ولم يكتفوا بهذا، بل اضطروهم لترك بيوتهم وأوطانهم والهجرة إلى
أماكن أخرى بعيدة. ولم يدعوهم في راحة هناك فبدسائسهم المختلفة سلبوا منهم
طعم الراحة والاطمئنان.
وفي غزوات بدر وأُحد
والخندق اشتبكوا معهم في معارك ضارية، وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم كزيارة
الكعبة، وأرجعوهم إلى ديارهم بعد إبرام معاهدة ذات شروط قاسية. ولكن الله
تعالى أنعم عليهم ففتحوا مكة ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس
جيش عظيم.
فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضًا؟ لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء" .. " [3]
ولو كان محمد ~ صلى الله
عليه و سلم ~ من ملوك الدنيا لسالت دماء أهل مكة ولكنه قابله صنيعهم
بالعفو فما كان منهم إلا أن دخلوا في دين الله أفواجا ..
ثانيًا: عفوه عن أهل الكتاب
يقول "مولانا محمد علي" :
"ولقد أسبغ عفوه على أتباع الأديان جميعاً - يهود ، ونصارى ، ووثنيين، وغيرهم - إنه لم يقصر إحسانه على أتباع دينه فحسب" [4] ..
ومثال ذلك عفوه عن قبيلة
بني قينقاع اليهودية الذين ناصبوه العداوة، وقد كان في استطاعته أن يفنيهم
عن بكرة أبيهم في معركته معهم، في 15 شوال سنة 2 هـ/9 إبريل624. رغم ما
صدر منهم من جريمة نكراء، قد تواطئوا فيها على كشف عورة سيدة مسلمة في
مكان عام. وتواطئهم في قتل رجل مسلم، دافع عن عرض السيدة المسلمة وحاول رد
العدوان ..
ومثال آخر ، عفوه عن
قبيلة بني النضير اليهودية، بعد أن خططوا لعملية اغتيال فاشلة للنبي ~ صلى
الله عليه و سلم ~, وقد كان باستطاعته أن ينفذ فيهم حكم الإعدام في من
شرعوا في محاولة اغتياله كما هو الحال في الأعراف والأدبيات الدولية، وقد
كانوا جميعًا تحت رحمته ~ صلى الله عليه و سلم ~ بعد هزيمتهم في معركتهم
ضد المسلمين (في ربيع الأول سنة 4 هـ/ أغسطس 625م)، ولكنه – صلوات الله
وسلامه عليه – أصدر عفوًا عامًا لهم، مقابل أن يرحلوا خارج حدود الدولة.
ثالثًا: عفوه عن الضعفاء أثناء الحروب
"إذ أمر جنوده أن يعفوا
عن الضعفاء، والمسنين، والأطفال، والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت أو
يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة" [5] .
وقد كان محمد ~ صلى الله
عليه و سلم ~ ينبه على هذه التعليمات، ويوصي بها جنوده، ويأخذ عليهم
العهود في ذلك، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة .
رابعًا: عفوه عن الأعراب الغلاظ
1- الأعرابي الذي رد على النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ بوقاحة:
قال أبو موسى الأشعري:
كنت عند النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ وهو نازل بالجعرانة بين مكة
والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ ~ صلى الله عليه و سلم ~ أعرابيُ، فقال:
ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: " أبشر" فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر!!
فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: "رد البشرى، فاقبلا
أنتما!!" قالا: قبلنا. ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه
ثم قال: "اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا !" فأخذا القدح
ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة
[6] .
2- الأعرابي الذي اتهم النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ بالظلم:
لما كان يوم حنين [شوال 8
هـ/ يناير 630 م]، ويوم توزيع الغنائم على الجيش، آثر رسول الله ~ صلى
الله عليه و سلم ~ ناسًا في القسمة، فأعطى أناسًا أسلموا حديثًا و
أناسًا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل من الأعراب:
والله ! إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله !. فرفع الصحابي
عبد الله بن مسعود إلى حضرة النبي تقريرًا بذلك. فتغير وجه النبي ~
صلى الله عليه و سلم ~ حتى كان كالصرف. ثم قال: "فمن يعدل إن لم يعدل
الله ورسوله؟!" ثم قال: "يرحم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" [7] .
3- الأعرابي الذي قابل إحسان النبي بالإساءة :
عن أبي هريرة ، أن أعرابيا ، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -يستعينه في شيء ، فأعطاه شيئا ، ثم قال :" أحسنت إليك ؟ "
فقال الأعرابي : لا ، ولا أجملت !
قال : فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفوا .
ثم قام النبي -صلى الله
عليه وسلم - فدخل منزله ، ثم أرسل إلى الأعرابي ، فدعاه إلى البيت ، فقال :
"إنك جئتنا فسألتنا ، فأعطيناك ، فقلت : ما قلته" ، فزاده رسول الله صلى
الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال :" أحسنت إليك ؟ " !
قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا ..
فقال له النبي -صلى
الله عليه وسلم- :" إنك كنت جئتنا فسألتنا ، فأعطيناك ، وقلت ما قلت ، وفى
أنفس أصحابي شيء من ذلك ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى
تذهب من صدورهم ما فيها عليك " !!
قال : نعم .
فلما كان الغد أو العشي
، جاء فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن صاحبكم هذا كان جاء
فسألنا ، فأعطيناه ، وقال ما قال ، وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم
أنه قد رضي ، أكذلك؟"
قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا .
فقال النبي- صلى الله
عليه وسلم -:" ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت
عليه ، فاتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورًا ، فناداهم صاحب الناقة :
خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها وأعلم ، فتوجه لها صاحب الناقة بين
يديها وأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هونا هونا هونا حتى جاءت واستناخت
وشد عليها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال ، فقتلتموه، دخل النار !"
[8] .
وهذا الموقف قد ازدحمت
فيه العديد فضائل وأخلاق محمد، فاشتمل الموقف على وكرمه وحسن تصرفه ولطفه
ورفقه ، إلا جانب خلق العفو الذي سطرنا تحته الحديث– صلوات الله وسلامه
على صاحب الخلق العظيم - .