[size=25]
الإسلام وتربية الروح

محمد علي القضاة

الإسلام يعنى عناية خاصة بالروح، إنها في نظره
مركز الكيان البشري ونقطة ارتكازه، إنها القاعدة التي يستند إليها الكيان
كله ويترابط عن طريقها، إنها المهيمن الأكبر على حياة الإنسان. إنها
الموجه إلى النور. ويكفي أنها صلة الإنسان بالله.
والإسلام- في عنايته الفائقة بتربية الروح- هو دين الفطرة. فالحق أن الطاقة الروحية في الإنسان هي أكبر طاقاته،
وأعظمها، وأشدها اتصالاً بحقائق الوجود.
طاقة الجسم محدودة بكيانه المادي وبما تدركه الحواس. وطاقة العقل أكثر
طلاقة، ولكنها محدود بما (يُعقل) محدودة بالزمان والمكان. بالبدء
والنهاية. ومحكومة بالفناء.
وطاقة الروح –وحدها- في كيان الإنسان، هي التي لا تعرف الحدود والقيود، لا
تعرف الزمان والمكان، لا تعرف البدء والنهاية. لا تعرف الفناء .... هي
وحدها التي تملك الاتصال بما لا يدركه الحس ولا يدركه العقل. وحدها التي
تملك الاتصال بالخلود الأبدي والوجود الأزلي، تملك الاتصال بالله.
كيف؟ لا نعلم! لكننا نحس بإشراقة الروح الصافية التي تشمل الحياة كلها في ومضة وتشمل الآباد والآماد.
وقد كان طبيعياً إذن أن تهتم العقائد كلها بأمر
هذه الروح وكان طبيعياً أن يهتم الإسلام خاصة بها. وهو الذي جعل منهجه
الاهتمام بالطاقات البشرية كلها، وإعطاءها حقها من الرعاية والتوجيه.
وجعل الإسلام للروح غاية ووسيلة، أما الغاية فهي الاتصال بالله عز وجل،
الاتصال الحي الذي ينعكس على النفس فيوقظ فيها مراقبة الله عز وجل في كل
صغيرة وكبيرة. وأما الوسيلة فهي تحريك أوتار القلب وشحذ العقل إلى النظر
في عجيب خلق الله وإبداعه في النفس وفي معالم الكون العظيمة، ويستفز
الحواس بعد ذلك كي تترجم هذه الأحاسيس والمشاهدات إلى خشية لله عز وجل
تصبح بالتالي منهجاً دقيقاً للحياة، فعالاً ومتحركاً مع الإنسان أينما
حلَّ وفي أي زمان كان. وطريقة الإسلام في تربية الروح هي أن يقصد صلة
دائمة بينها وبين الله، في كل لحظة وكل عمل وكل فكرة وكل شعور.
وان الإنسان قد تشرق روحه لحظة، قد تأخذه روعة الصبح الوليدة مرة، وهو
يتنفس كمن يصحو من سباته، وإنما يريد الإسلام أن يجعل هذه الاشراقة منهج
حياة! وتلك الصلة التي يعقدها الإسلام في تربية الروح بين الله تعالى
من جهة وبين الروح من جهة أخرى أنما تتمثل بالطرق الآتية:
أولاً: النظر في هذا الكون الواسع المبدع المعجز، واستحضار قوة وقدرة الله
عز وجل، التي توقظ القلب، وتشحذ العقل وتقدح زناده ليسبح الله ويجله
ويعظمه.
ولو نظر الإنسان لكل شيء حوله، وحرك عقله فيه لتحرك قلبه وجوارحه بالتعظيم والإجلال لهذا الخالق العظيم.
ولينظر الإنسان إلى نفسه، ويتفحص يده او جلده، ليسمع دقات قلبه، ولينظر
إلى تناسق أطرافه، ليحرك أصابعه، ويقلب نظره، ليسمع ما حوله، ليشم بأنفه
طيب الروائح، لينظر إلى الكون وسعته، لينظر إلى البحر ورهبته إلى كل ما
حوله مما يمر عليه في حياته اليومية، وليأخذ من ذلك كله محركاً لقلبة
وروحه وكيانه.
لكن الألف والصاد لما يراه الإنسان من الخلائق والعوالم الكونية العجيبة
يطمسان عظمة ما يراه ويحسه في حياته ويقطعان الصلة التي يريدها الله عز
وجل أن تكون في داخل النفس.
فكثيراً ما يقع نظرنا على معالم كونية بديعة، كالبحر أو الشمس أو القمر أو
الشجر، أو غير ذلك من الخلائق، لكنها لا تحرك فينا شيئاً ولا تستثير فينا
رهبة ولا تذكراً، حتى اصبحت هذه المعالم الكونية العجيبة أمراً عادياً،
وحتى لو أدركنا عملياً كثيراً من دقائق هذه المعالم وعظمها، وحتى إن
رأيناها مفصلة أمامنا على الشاشة المرئية.
فالإلف والعادة هما السبب في حجب تلك الأحاسيس وهما السبب في خمول الروح
ثم موتها وانقطاعها عن واقع الإنسان النفسي والاجتماعي وفي ذلك أضرار
كبيرة.
والإسلام لم يفعل هذه القضية ..... قضية حياة الروح ونفذيتها وكسر حاجز
الإلف والعادة بين الروح ومزاولتها لمهامها في النفس، ولذلك سلك منهجا
فريداً، وحرّي ان يكون المنهج الفريد، لانه من صنع الخالق المبدع لهذا
الكائن. بروحه وعقله ولحمه ودمه.
وعالج القرآن الألف والعادة بالدعوة الملحة للنظر و التفكير في كل صغيرة
وكبيرة، ثم يدعو الإنسان للربط مباشرة دون تردد بصاحب الخلق والبدء في ذلك
كله، ثم يدعوه مباشرة لترجمة هذه الاحاسيس إلى مراقبة لمن يستحق تلك
المراقبة
وبهذا تظل هذه المشاهد متجددة كلما وقع النظر عليها.
ودلائل منهج القرآن في ذلك تخرج عن حد الحصر ولكن نكتفي بذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر.

قوله تعالى:[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أن الله خالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم
الله فأنى تؤفكون` فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً
ذلك تقدير العزيز العليم` وهو الذي جعل لكم النجوم لتهدوا بها في ظلمات
البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
... ( الأنعام: 95-97) .
وقوله تعالى: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]يا
أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم
من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ونقر في الأرحام ما نشاء إلى اجل
مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوخى، ومنكم من يرد إلى
أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا
عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج يهيج[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
...(الحج: 5) .
وقوله تعالى: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]...( الأنبياء: 44).
وقوله تعالى: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]...(التكوير: 17-18).
وآيات كثيرة مبثوثة في القرآن مهمتها أيقاظ القلوب
وتحريك المشاعر لله عز وجل، وأخراج الناس من الإلف والعادة إلى الربط
بالله تعالى والتفكير في قدرته الخلاقة المبدعة حتى يكون هذا الكون بما
فيه نقطة وصل بين الإنسان وربه.
ثانياً: عن طريق العبادات فالصلاة التي تربط
الإنسان بخالقه، فإذا هو كائن عجيب لا يشبه شيء من خلق الله كله، كائن يقف
بجسمه على الأرض وبروحه تسبح في السماء، كائن قادر-في عجزه وطاقته
المحدودة الفانية- أن يقوم بالمعجزة، أن يقبس من الروح الخالقة، أن يحطم
السدود والحواجز أن تنفسح جوانحه فيشمل الكون. أن تنفسح روحه فتشمل الحياة
أن ينفسح كيانه فيتذوق الخلد، ويتذوق حقيقة الوجود.
والصيام حين يؤدي على أصوله، حين يكون صيام النفس من الداخل لا صيام
الأحشاء عن الطعام والشراب، حين يتوجه به الإنسان إلى ربه، حين أن كل
خاطرة في نفسه، وكل إحساس في شعوره، وكل لفته وكل نظره وكل خالجه وكل سر،
ينبغي أن تكون نظيفة متطهرة تصلح للصيام والتبتل، والتوجه الكامل إلى
الله، حينئذ تملأ التقوى القلب، وتنطلق الروح من آفاق عالية من النور
المشرق الوضيء.

والزكاة .... تطهير من شح النفس، وإطلاق للروح من
الأثرة البغيضة التي تحس بوجودها وحدها ولا تحس بالآخرين، إنها إحساس
بالأخوة النبيلة التي تجمع الأسرة البشرية الواحدة، الأخوة التي تخرج
بالإنسان عن الشعور "بالملك" فيما يمتلك.
والذين يذهبون إلى الحج صافية قلوبهم لهذه الفريضة فإن حالات "الوجد" التي
يشعرون بها في وجدانهم لهي حالات عجيبة نادرة المثال في واقع الحياة.
والشفافية التي يحسها الناس في الحج، إنها
مشاعر عميقة تهز الوجدان هزاً، وتصل إلى أعماقه تصل إلى الكيان الخالص
المصفى من الأدران، إلى الجوهر المشرق المستضيء بنور الله، هنالك حيث أودعه
الله ليتصل به ويلقاه.
تلك هي العبادات "المفروضة" ولكنها ليست كل عبادة الإسلام.
إن الإسلام يوسع معنى العبادة حتى تشمل كل الحياة. كل عمل يتوجه به
الإنسان إلى الله فهو عبادة، وكل عمل يتركه الإنسان تقرباً لله واحتساباً
فهو عبادة.
كل شعور نظيف في باطن النفس فهو عبادة.
وكل امتناع عن شعور هابط من أجل مرضاة الله فهو عبادة. وكل ذكر لله في الليل والنهار فهو عبادة.
ومن ثم تشمل العبادة الحياة. ويصبح الإنسان عابداً لله حيثما توجه إلى الله.
وبهذا المعنى تصبح العبادة هي الصلة الدائمة للروح..
ثالثاً: عن طريق توجيه القلب إلى الخشوع وتقوى الله عز وجل
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ... (سورة المؤمنين: 1-2)
فالخشوع في الصلاة استشعار الخوف من الله عز وجل وتعظيمه وإجلاله وانصراف القلب عن الدنيا إلى ما عند الله من نعيم وخوف.
وكذلك توجيه القلب إلى علم الله الشامل المحيط بما في السماوات والأرض وما في النفوس من وسوسة وهواجس.
فهو الذي يعلم الغيب ويعلم البحر والبر وما يحويه من مخلوقات ويعلم كل
شجرة وكل ورقة على وجه هذه الأرض سقطت أو بقيت في أصلها. ويعلم كل حي وميت
وكل طيب ويابس. لقوله تعالى:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وعنده
مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة
إلا يعلمها ولاحبه في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو
الذي توفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى
ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
....(الأنعام: 59-60)
هكذا يريد القرآن الكريم أن يرهف الحس والشعور بمجرد ذكر الله تتحرك القلوب وتشرأب الأعناق لتسمع وتتأثر وتطع وتطبق.
فإذا حس الإنسان بالوشيجة الحية بينة وبين الكون الجامد لظاهر العين، الحي
في حساب الروح، فإنه من باب أولى سيحس بالوشيجة بينة وبين الأحياء التي
يشعر بحياتها الحس والروح على السواء.
والحديث الدائم عن الأحياء في القرآن، ولفت النظر إليها، سواء في عالم
النبات أو الحيوان، ينتج هذا الأثر في النفس، فتحس بصلة القربى وعمق
الاتصال. وتولد في الإنسان حباً لكل كائن حي، حتى وهو يصارع ما يضره من
هذه الأحياء.
وهذا الإحساس – كالإحساس بالصداقة مع الكون الواسع- يعمل عمله في تهذيب النفس، وتطريه خشونتها وإزالة جفوتها،
فإن
التعود على شعور الصداقة والحب، وهو شعور رضي ندي، يزيل التوتر الذي يصب
النفس من مجاهدة "الواقع" المادي والواقع الحسي، والذي يصيبها من الكدح
الذي لابد للإنسان منه لكي يعيش.
هذا التوتر الذي ينشأ طبيعياً من عملية الكدح، هو حصيلة خطيرة، أنه
كالسموم التي تنشأ في داخل الجسم من عملية الطعام. لابد أن تطرد، لابد لها
من مزيل.
واذا كان الجسم يتخلص من سمومة بطريقة ما، ويمرض إذا تراكمت السموم داخله
.... فإن النفس كذلك ينبغي لها أن تطرد سمومها. وليس شيء يزيل سموم النفس
كما يزيلها الحب والمودة، ذلك الروح العلوي الشفاف الذي تتمثل فيه عظيمة
الإنسان، تتمثل فيه نفخة الروح التي نفخها الله في قبضته الطين. وهذا الذي
يصنعه الإسلام، ويصنعه القرآن.
وينتج عن ذلك كله ثمار ناتجة عن تربية الروح.
ومن ثمارها الاستعلاء على دفعة الجسد وموازنة ثقلة الأرض.
إن دفعة الجسد جزء من الكيان الحي للإنسان، جزء مطلوب لذاته، وهو موضع
الرضاء الكامل ولكنه مع ذلك حيث يترك وحده يهبط بالإنسان عن مستواه اللائق
كخليفة الله في الارض.
من أجل ذلك يعمل الإسلام على موازنته-لا كبته- بإطلاق الروح في ملكوت
الله، وصلة القلب الدائمة به، فتهويمه الروح تخلع الإنسان قليلاً من تشبثه
بالأرض، ونشوة القلب تخفف قليلاً من ثقله الجسم.
ومن ثمارها الاستعلاء على كل قوة في الأرض.
فما وزن القوى الأرضية كلها بإزاء قوة الله؟ لاشيء البتة.
وإذن لا عبودية لقوة من قوى الأرض. ولاذلة ولا خنوع.
فلابد من الاستعلاء على هذه القوى الأرضية والتي تكون ضالة منحرفة عن الله
تعالى، خارجة على نهجة مستكبرة على هداه. فهي باطلة، وهذا الاستعلاء على
الباطل، عنصر أصيل في العقيدة الإسلامية والتربية الإسلامية.
ومن ثمارها أستمرار القوة من الله تجاه "القوى المادية" التي تظن النظرة القصيرة أنها هي الواقع الحق وكل ما عداها أباطيل!
القوى الاقتصادية، والقوى الاجتماعية، والقوى
السياسية، والقوى المادية. كلها حقائق. ولكنها حقائق صغيرة هزيلة. ليست
لها "حتمية" وليس في يدها وحدها تقرير الأمور.
والعقيدة الحية التي تغذي الروح تستطيع أن تصارعها كلها وتتغلب عليها وتوجهها الوجهة الصحيحة.
من اجل ذلك يحرص الإسلام على هذه الروح ويصفها في المقام الأول. لأنها-في
حقيقة- الامر هي التي تنشئ الواقع المادي وتشكل ظروفه. هي التي تهدم
وتبنى، وتثبت وتمحو وهي الجوهر الحق، والمادة مجرد كساء.
والإسلام ينظر للروح بهذا المنظار الذي يجعل منها منهجاً للحياة تعايش
الواقع فترسم طريقة وتربطة بالله فتغير الواقع المصادم للفطرة السليمة،
تقيم التوازن المطلوب منها في الجوانب الروحانية.

[/size]