الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ
عِوَجَا {1} قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ أَجْراً حَسَناً {2} مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً {3}) الكهف.
وأصلي
وأسلم على إمام المتقين, وسيد المرسلين, وخاتم النبيين, سيدنا محمد, وعلى
آله الطيبين الطاهرين, وصحابته السابقين الأولين, وعلى التابعين, وتابعيهم
بإحسان ٍإلى يوم الدين, وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له,
الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد.
وأشهد
أن سيدنا, ونبينا, وحبيبنا محمداً عبده ورسوله, وصفيه من خيرة خلقه
وخليله, بلـَّغ الرسالة, وأدَّى الأمانة, ونصح الأمة, وكشف الغمة, وجاهد في
الله حقَّ جهاده, حتى أتاه اليقين من ربه, فصلاة ربي وسلامه عليه ما لألأ
في السماء نجمٌ, وغرَّد في الآفاق طيرٌ, وبقي الليل والنهار.
إعلموا
عباد الله يرحمني وإياكم الله: أن الدنيا فانية, وأن الآخرة باقية, فلا
تـُؤثروا الفانية على الباقية, فالآخرة خيرٌ وأبقى, وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً {46}).
الكهف.
وبعد أيها المسلمون: لقد كرَّم الله تبارك وتعالى بني آدم,
حتى قيل: وهو قول حق ٍ, أنهم أكرم على الله تعالى من الملائكة أنفسِهم,
فبنوا آدم مخيرونَ, والملائكة مُسيرون: ( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )
أيها الناس: يقول الحق
جلَّ وعلا وهو أصدق القائلين: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً {70}) الإسراء.
إي وربي فقد خلق الله الإنسانَ,
وكرَّمهُ, وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا, بأن جعله عاقلا, يعقل الأشياءَ,
ويدبر الأمور ويدرك, بعقله وجود الله جلَّ وعلا, فيؤمن به, ويلتزم بأمره,
وينتهي عن نهيه, فإن كان ذلك كذلك فهو عاقل, وإن كان غير ذلك فقد صحَّ به
وبأمثاله قول الله جلَّ في علاه: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ سَبِيلاً {44}) الفرقان.
وقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ {179} ) الأعراف.
أيها
الناس: إن العقل مِنـَّة ٌمن الله عظيمة, ونعمة منه كريمة, وقد جعله الشارع
الحكيم مناط التكليف, وحدد غايته بأن يفهم خطاب الشارع المتعلق بأفعال
العباد, حتى يكون المسلمُ على بينة من أمره في شأنه كله, بهذا أكرم الله
تبارك وتعالى الخلق, كل الخلق, مسلمهم وكافرهم, كلهم مكرمون بعقولهم, وتلك
هي المِنـَّة التي مَنـَّها الله تبارك وتعالى على خلقه, إلاَّ أنه جلَّ
وعلا قد خصَّ أمة محمدٍ صلوات ربي وسلامه عليه بأمورٍ لم تكن في الأمم
السالفة قبلهم, ولم يعطها الله تبارك وتعالى لغير أمة محمد رسول الرحمة
والهدى صلوات ربي وسلامه عليه حتى تتميز أمة محمد عن غيرها من الأمم,
تماماً كما ميَّزَ الله تبارك وتعالى محمداً عليه السلام عن غيره من
الأنبياء والرسل السابقين, فبماذا خصَّ الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟
لقد خصَّ الله سبحانه وتعالى أمة محمد بأن جعلها أمة وسطا مصداقاً
لقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ
شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...
{142}) البقرة. والوسط هو العدل, وأمة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بنصِّ
القرآن الكريم ستكون يوم القيامة شاهدة على غيرها من الأمم الأخرى, بأنها
قد بلـَّغتها رسالة ربها, ويشترط في الشاهد أن يكون عدلاً, فكانت أمة محمدٍ
صلى الله عليه وآله وسلم هي أمة العدل. تماماً كما أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم رسول العدل كذلك ( لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) أمة وسطاً شاهدة على غيرها من
الأمم, وسيشهد علينا نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه, هذا هو معنى الوسط,
ولا يُقصد بالوسط بأن أمة محمد أمة ًوسطية ! لا يقصد به ما يريده الكفار
المستعمرون من قولهم أن المسلمين أمة وسطا, أي أنهم لا يغلون في دينهم كما
يغلوا اليهود, ولا يفرطون كما يفرط النصارى.
نعم إن معنى أمة وسطا, أي أمة عدل ٍشاهدة على غيرها من الأمم, وهذه هي الميزة الأولى.
أما
الميزة الثانية: فالخيرية لهذه الأمة الكريمة مصداقاً لقوله تعالى: (
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ... {110}) آل عمران.
نعم:
تأمرون بالمعروف, وتنهون عن المنكر, وتؤمنون بالله, فالأمر بالمعروف
والنهي عن واجبٌ في حقِّ أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, عليها أن تقول
للظالم يا ظالم, فإن الرزق واحد, والربَّ واحدٌ, والعُمرَ واحد, ألم تسمعوا
تحذير نبيكم صلوات ربي وسلامه عليه, فيما يرويه عبد الله بن عمرو رضي الله
تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: (إذا رأيت أمتي
تهاب, فلا تقول للظالم, يا ظالم، فقد تودع منهم). هذا حديث صحيح الإسناد.
وهذا
سيدي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يبين حقيقة هذا الأمر بكلماتٍ
موجزة فيقول: لا تزال أمة محمد بخير ما أمرت بالمعروف, ونهت عن المنكر,
وآمنت بالله رب العالمين.
أيها الناس: روي عن جابر رضي الله تعالى
عنه أنه قال: " أوحى الله تبارك وتعالى إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة
كذا وكذا على أهلها, فقال يا رب إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين, قال:
اقلبها عليه وعليهم, فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط" أخرجه الطبراني في
الأوسط والبيهقي في الشعب .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ
وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، لَبِسُوا لِلْعِبَادِ مَسْكَ
الضَّأْنِ فِي اللِّينِ، يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدَّيْنِ، فَيَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: أَعَلَيَّ تَجْتَرِئُونَ، وَبِيَ تَغْتَرُّونَ ؟
وَعِزَّتِي لأَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ فِيهِمْ
حَيْرَانَا, قُلْنَا: يَا أَبَا حَمْزَةَ: هَلْ لِهَؤُلاءِ فِي كِتَابِ
اللَّهِ وَصْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " وَمِنَ
النَّاسِ مِنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" " إِلَى
قَوْلِهِ :" وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ".
أيها الناس: أليس
الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر عبادة, وأي عبادة, ورسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام
جائر فأمره ونهاه، فقتله)
نعم: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة, وأعظم بها من عبادة.
واعلموا
أيها الناس: أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كان واجباً مفروضاً في
الامم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة. وهو صنعة الأنبياء من
قبلكم, وهدي نبيكم صلوات ربي وسلامه عليه.
قال الحسن رضي الله
تعالى عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمر بالمعروف أو نهى عن
المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه).
وعن درة
بنت أبى لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر
فقال: من خير الناس يا رسول الله ؟ قال: ( آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن
المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه).
فقولوا الحق, ولا تخشوْا في
الله لومة لائم, وحافظوا على الخيرية التي أرادها الله سبحانه وتعالى لكم
تفلحوا, وصدق الله العلي العظيم إذ يقول: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ... {110}) آل عمران. مع أن غير المؤمن
لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر, إلاَّ أن الله تبارك وتعالى في هذه الآية
قدَّم الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر على الإيمان بالله تبارك وتعالى
للتدليل على أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر همُ المؤمنون بالله
حقا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى, والصلاة والسلام على النبي المصطفى, محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه, ومن بعهده وفى.
وبعد
أيها الناس: عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
قال: « كيف أنتم إذا طغى نساؤكم، وفسق شبابكم، وتركتم جهادكم ؟ »، قالوا:
وإن ذلك لكائن يا رسول الله ؟ قال: « نعم، والذي نفسي بيده، وأشد منه
سيكون» قالوا: وما أشد منه يا رسول الله ؟، قال: « كيف أنتم إذا لم تأمروا
بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر؟ »، قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله ؟، قال: «
نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون »، قالوا: وما أشدُّ منه يا رسول
الله ؟، قال: « كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا، ورأيتم المنكر معروفا ؟
»، قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: « نعم، وأشد منه سيكون، يقول الله
تعالى: بي حلفت، لأتيحن (1) لهم فتنة يصير الحليم فيهم حيرانا (2) » (1)
أتاح: هيأ ووفر. (2) الحيران: هو الذي لا يهتدي لجهة أمره. نعم: كثير منكم
أيها الناس لا يأمر بالمعروف, ولا ينهى عن المنكر, بل هناك الكثير الكثير
منكم ينها عن المعروف, ويأمر بالمنكروهو يعلم. لم تأمروا بالمعروف, ولم
تنهوا عن المنكر, رأيتم المعروف منكراً, والمنكر معروفا!
أيها
الناس: هل من المعروف أن يُمنع حملة الدعوة من إقامة مؤتمراتٍ تذكر بها أمة
محمدٍ صلى الله عليه وسلم بقاصمة الظهر, بذكرى هدم خلافتهم, وبأنه كان لهم
في يوم من الأيام دولة, تحفظ عقيدتهم, وتحمي بيضتهم, وتحمل دعوتهم للناس
أجمعين. مؤتمرات وأعمال ٍيستنهضون بها أمة الإسلام حتى تهب ثأراً لكرامتها,
وانتصاراً لدينها.
فهل منعهم من القيام بهذا من المعروف؟ وهل من
المعروف أن يلاحق العاملون لإقامة حكم الله في الأرض؟ بالعصي والهراوات,
وفحش الكلام, وبالترويع والتهديد والتضييق والملاحقة, والزج بالسجون, لا
لشيء إلاَّ أنهم قالوا: ربنا الله! وفي المقابل تراهم يستقبلون
الكفارالمستعمرين لبلاد المسلمين بالأحضان والقـُبل, وباحترامهم فوق
العادة. والرضا بالذلة والمسكنة أمام ألد أعداد الله في الأرض. قاتلهم الله
أنى يؤفكون.
أيها الناس: ألم يسمع هؤلاء جميعاً قول الله جلَّ في
علاه: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ {42}) ابراهيم
.الله عزَّ وجلَّ وصف وبين أن من يمنع ذكر الله تعالى فإنه من الظالمين,
كيف لا وهو القائل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ
لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {114}) البقرة.
واعلموا
أيها الناس: أن عاقبة الظلم وخيمة: وإن السكوت عن المنكر جريمة, وهما
معصيتان عظيمتان, يعاقب الله تبارك وتعالى عليهما أشدَّ العقوبة. فكونوا من
الآمرين بالمعروف, والناهين عن المنكر, والحافظين لحدود الله, عسى الله
سبحانه وتعالى أن ينظر إلينا بعين رحمته فيكرمنا بنصره, ويوفقنا لما يحبه
ويرضاه.