قال العلامة ابن عابدين الحنفي في كتابه رد المحتار على الدر المختار المشهور بحاشية ابن عابدين (16/300):
((
مطلَبٌ فِي حَالِ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ سَيِّدِي مُحْيِي الدِّينِ ابْنِ
عَرَبِيٍّ نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ( قَوْلُهُ لِلشَّيْخِ مُحْيِي
الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْحَاتِمِيُّ الطَّائِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْعَارِفُ الْكَبِيرُ ابْنُ
عَرَبِيٍّ ، وَيُقَالُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ .
وُلِدَ سَنَةَ 560 وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ سَنَةَ 636 وَدُفِنَ بِالصَّالِحِيَّةِ .
وَحَسْبُك
قَوْلُ زَرُّوقٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُحُولِ ذَاكِرِينَ بَعْضَ فَضْلِهِ ،
هُوَ أَعْرَفُ بِكُلِّ فَنٍّ مِنْ أَهْلِهِ ، وَإِذَا أُطْلِقَ الشَّيْخُ
الْأَكْبَرُ فِي عُرْفِ الْقَوْمِ فَهُوَ الْمُرَادُ ، وَتَمَامُهُ فِي ط
عَنْ طَبَقَاتِ الْمُنَاوِيِّ ( قَوْلُهُ بَعْضُ الْمُتَصَلَّفِينَ ) أَيْ
الْمُتَكَلِّفِينَ ( قَوْلُهُ لَكِنَّا تَيَقَّنَّا إلَخْ ) لَعَلَّ
تَيَقُّنَهُ بِذَلِكَ بِدَلِيلٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَوْ بِسَبَبِ عَدَمِ
اطِّلَاعِهِ عَلَى مُرَادِ الشَّيْخِ فِيهَا وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
تَأْوِيلُهَا فَتَعَيَّنَ عِنْدَهُ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ عَلَيْهِ ؛ كَمَا
وَقَعَ لِلْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ أَنَّهُ افْتَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ
الْحُسَّادِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَشْيَاءَ مُكَفِّرَةً وَأَشَاعَهَا
عَنْهُ حَتَّى اجْتَمَعَ بِعُلَمَاءِ عَصْرِهِ وَأَخْرَجَ لَهُمْ
مُسَوَّدَةَ كِتَابِهِ الَّتِي عَلَيْهَا خُطُوطُ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا
هِيَ خَالِيَةٌ عَمَّا اُفْتُرِيَ عَلَيْهِ هَذَا .
وَمَنْ أَرَادَ
شَرْحَ كَلِمَاتِهِ الَّتِي اعْتَرَضَهَا الْمُنْكِرُونَ فَلْيَرْجِعْ إلَى
كِتَابِ الرَّدِّ الْمَتِينِ عَلَى مُنْتَقِصِ الْعَارِفِ مُحْيِي
الدِّينِ لِسَيِّدِي عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيِّ ( قَوْلُهُ
فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ إلَخْ ) لِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ افْتِرَاؤُهَا
فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ ، وَإِلَّا فَلَا يَفْهَمُ كُلُّ أَحَدٍ مُرَادَهُ
فِيهَا ، فَيَخْشَى عَلَى النَّاظِرِ فِيهَا مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ
أَوْ فَهِمَ خِلَافَ الْمُرَادِ .
وَلِلْحَافِظِ السُّيُوطِيّ رِسَالَةٌ
سَمَّاهَا تَنْبِيهُ الْغَبِيِّ بِتَبْرِئَةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ ذَكَرَ
فِيهَا أَنَّ النَّاسَ افْتَرَقُوا فِيهِ فِرْقَتَيْنِ : الْفِرْقَةُ
الْمُصِيبَةُ تَعْتَقِدُ وِلَايَتَهُ ، وَالْأُخْرَى بِخِلَافِهَا .
ثُمَّ
قَالَ : وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ عِنْدِي فِيهِ طَرِيقَةٌ لَا يَرْضَاهَا
الْفِرْقَتَانِ ، وَهِيَ اعْتِقَادُ وِلَايَتِهِ وَتَحْرِيمُ النَّظَرِ فِي
كُتُبِهِ .
فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نَحْنُ قَوْمٌ
يَحْرُمُ النَّظَرُ فِي كُتُبِنَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ
تَوَاطَئُوا عَلَى أَلْفَاظٍ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَأَرَادُوا بِهَا
مَعَانِيَ غَيْرَ الْمَعَانِي الْمُتَعَارَفَةِ مِنْهَا بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ ، فَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَعَانِيهَا الْمُتَعَارَفَةِ
كَفَرَ ؛ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ ، وَقَالَ
إنَّهُ شَبِيهٌ بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَالْوَجْهِ
وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالِاسْتِوَاءِ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُ
الْكِتَابِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ كُلِّ كَلِمَةٍ لِاحْتِمَالِ
أَنْ يهدَسَّ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مُلْحِدٍ أَوْ
زِنْدِيقٍ وَثُبُوتُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمَعْنَى
الْمُتَعَارَفَ ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَمَنْ ادَّعَاهُ كَفَرَ
لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْقَلْبِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا
اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ بَعْضَ
الصُّوفِيَّةِ : مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنَّكُمْ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى
هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُسْتَشْنَعُ ظَاهِرُهَا؟؟ فَقَالَ غَيْرُهُ :
(حفاظاً) عَلَى طَرِيقِنَا هَذَا أَنْ يَدَّعِيَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ
وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ ، وَالْمُتَصَدِّي لِلنَّظَرِ فِي
كُتُبِهِ أَوْ إقْرَائِهَا لَمْ يَنْصَحْ نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ الْقَاصِرِينَ عَنْ عُلُومِ
الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ
يَضِلُّ وَيُضِلُّ ، وَإِنْ كَانَ عَارِفًا
فَلَيْسَ مِنْ طَرِيقَتِهِمْ إقْرَاءُ الْمُرِيدِينَ لِكُتُبِهِمْ ، وَلَا
يُؤْخَذُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ الْكُتُبِ ا هـ مُلَخَّصًا .
وَذَكَرَ
فِي مَحَلٍّ آخَرَ : سَمِعْت أَنَّ الْفَقِيهَ الْعَالِمَ الْعَلَّامَةَ
عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ كَانَ يَطْعَنُ فِي ابْنِ عَرَبِيٍّ
وَيَقُولُ هُوَ زِنْدِيقٌ ، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا بَعْضُ أَصْحَابِهِ :
أُرِيدُ أَنْ تُرِيَنِي الْقُطْبَ فَأَشَارَ إلَى ابْنِ عَرَبِيٍّ ،
فَقَالَ لَهُ أَنْتَ تَطْعَنُ فِيهِ : فَقَالَ حَتَّى أَصُونَ ظَاهِرَ
الشَّرْعِ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ كَمَالٍ بَاشَا
فَتْوَى قَالَ فِيهَا بَعْدَ مَا أَبْدَعَ فِي مَدْحِهِ : وَلَهُ
مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا فُصُوصٌ حُكْمِيَّةٌ وَفُتُوحَاتٌ
مَكِّيَّةٌ بَعْضُ مَسَائِلِهَا مَفْهُومُ النَّصِّ وَالْمَعْنَى
وَمُوَافِقٌ لِلْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ وَالشَّرْعِ النَّبَوِيِّ ؛
وَبَعْضُهَا خَفِيٌّ عَنْ إدْرَاكِ أَهْلِ الظَّاهِرِ دُونَ أَهْلِ
الْكَشْفِ وَالْبَاطِنِ ، وَمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْمَعْنَى
الْمُرَامِ يَجِبْ عَلَيْهِ السُّكُوتُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلِقَوْلِهِ
تَعَالَى - { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } ))
انتهى كلام الشيخ ابن عابدين الحنفي
قال ابن كمال باشا بما صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لمن جعل من عباده العلماء المصلحين، ورثةَ
الأنبياءَ والمرسلين، والصلاة والسلام على محمد المبعوث لإصلاح الضَّالين
والمُضلِّين، وآله وأصحابه المُجدِّين لإجراء الشرع المبين.
وبعد:
أيُّها الناس! اعلموا أن الشيخ الأعظم، المقتدى الأكرم، قطب العَارفين،
وإمام الموحدين، محمد بن علي بن العربي الطائي الأندلسي، مجتهد كامل، ومرشد
فاضل، له مناقب عجيبة، وخَوَارق غريبة، وتلامذة كثيرة، مقبولة عند العلماء
والفضلاء، فمن أنكره فقد أخطأ، وإن أصرَّ في إنكاره فقد ضلَّ، يجب على
السلطان تأديبه، وعن هذا الاعتقاد تحويله، إذ السلطان مأمور بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وله مُصنّفات كثيرة، منها: "فصوص حكمية"
و"فتوحات مكيّة". وبعض مسائلها معلوم اللفظ والمعنى، وموافق للأمر الإلهيّ
والشرع النبوي، وبعضها خفي عن إِدْرَاكِ أهل الظّاهر دون أهل الكشف
والباطن، فمن لم يطلع على المعنى المرام يجب عليه السكوت في هذا المقام،
لقوله تعالى:]وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إنَّ السَّمْعَ
والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كان عَنْهُ مَسْئولاً[ [ الإسراء:
36]،
والله الهادي إلى سبيل الصواب، وإليه المرجع والمآب. انتهى.
"طبقات المجتهدين" وهو مخطوط لم يطبع بعد كما ذكر الزركلي في ترجمته من كتابه "الإعلام"، (1/133
وقد كان شيخ الإسلام المخزومي يقول:
"لا يجوز لأحد من العلماء الإنكار على الصوفية إلا إن سلك طريقهم ورأى
أفعالهم وأقوالهم مخالفة للكتاب والسنة. وأما بالإشاعة عنهم؛ فلا يجوز
الإنكار عليهم". وأطال في ذلك، ثم قال: "وبالجملة؛ فأول ما يحق على المنكر
حتى يسوغ له الإنكار على أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم: أن يعرف سبعين أمرًا
ثم بعد ذلك يسوغ له الإنكار؛ منها:
أ - اطلاعه على تفسير القرآن خلفًا
وسلفًا ليعرف أسرار الكتاب والسنة ومنازع الأئمة المجتهدين، ويعرف لغات
العرب في مجازاتها واستعاراتها حتى يبلغ الغاية.
ب – ومنها: كثرة الاطلاع على مقامات السلف والخلف في معاني آيات الصفات وأخبارها، ومن أخذ بالظاهر ومن أوّل.
ج
- ومنها وهو أهمها: معرفة اصطلاح القوم فيما عبروا عنه من التجلي الذاتي
والصوري وما هو الذات وذات الذات، ومعرفة حضرات الأسماء والصفات، والفرق
بين الحضرات، والفرق بين الأحدية والواحدية، ومعرفة الظهور والبطون والأزل
والأبد، وعالم الكون والشهادة، وعالم الماهية والهوية، والسُكر والمحبة، ثم
قال: "فمن لم يعرف مرادهم؛ كيف يحلُّ كلامهم أو ينكر عليهم بما هو ليس من
مرادهم " اهـ.
وفي تأويل كلام الائمة والأولياء يقول الإمام النووي
ولمّا
حكى الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه " بستان العارفين " عن الشيخ
أبي الخير التيناني [ ت 343 هـ ] حكاية ظاهرها الإنكار قال : " قلت : قد
يتوهم من يتشبه بالفقهاء ولا فقه عنده أنه يُنْكَر على أبي الخير هذا ،
وهذه جهالة وغباوة ممن يتوهم ذلك ، وجسارة منه على إرسال الظنون في أفعال
أولياء الرحمن ! فليحذر العاقل التوخي لشيء من ذلك ، بل حقُّه إذا لم يفهم
حِكَمَهُم المُستفادة ولطائفهم المُسْتَجادَة أن يتفهمها ممن يعرفها . وكل
شيء رأيتَه من هذا النوع مما يتوهم من لا تحقيق عنده أنه مخالف – ليس
مخالفًا ؛ بل يجب تأويل أقوال أولياء الله تعالى" ا هـ .
أقول:
نتبين مما سبق أنه لا يجوز لأحد أن ينكر على أهل التصوف وما هو موجود في
كتبهم إلا إذا كان عارفاً بألفاظهم ومعنى مصطلحاتهم التي يصطلحون عليها،
وإلا فالمنكر عليهم ينكر على ما هو ليس بمقصود من كلامهم.