انظر إلى هذا الوجود المحكم ... ووجودنا مثل الرداء المعلم
وانظر إلى خلفائه في ملكهم ... من مفصح طلق اللسان وأعجم
ما منهمو أحد يحب إلهه ... إلا ويمزجه بحب الدرهم
فيقال هذا عبد معرفة وذا ... عبد الجنان وذا عبيد جهنم
إلا القليل من القليل فإنهم ... سكرى به من غير حس توهم
فهمو عبيد الله لا يدري بهم ... أحد سواء لا عبيد المنعم
فأفادهم لما أراد رجوعهم ... لقصورهم من كل علم مبهم
علم المقدم في البسائط وحده ... وأساسه ذو عنه لم يتصرم
وحقيقة الظرف الذي سترته عن ... أمثاله ومثله لم يكتم
والعلم بالسبب الذي وجدت له ... عين العوالم في الطراز الأقدم
ونهاية الأمر الذي لا غاية ... تدرى له فيه العظيم الأعظم
وعلوم أفلاك الوجود كبيره ... وصغيره الأعلى الذي لم يذمم
هذي علوم من تحقق كشفها ... يهدي القلوب إلى السبيل الأقوم
فالحمد لله الذي أنا جامع ... لعلومها ولعلم ما لم يعلم
ومن هو أول موجود فيه ومم وجد وفيم وجد وعلى أي مثال وجد ولم وجد وما غايته ومعرفة أفلاك العالم الأكبر والأصغر:
إيجاز
البيان بضرب من الإجمال بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه اعحقيقة المحمدية
الرحمانية ولا أين يحصرها لعدم التحيز ومم وجد وجد من الحقيقة المعلومة
التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم وفيم وجد في الهباء وعلى أي مثال وجد
الصورة المعلومة في نفس الحق ولم وجد لإظهار الحقائق الإلهية وما غايته
التخليص من المزجة فيعرف كل عالم حظه من منشئه من غير امتزاج فغايته إظهار
حقائقه ومعرفة أفلاك الأكبر من العالم وهو ما عدا الإنسان في اصطلاح
الجماعة والعالم الأصغر يعني الإنسان روح العالم وعلته وسببه وأفلاكه
مقاماته وحركاته وتفصيل طبقاته فهذا جميع ما يتضمنه هذا الباب فكما أن
الإنسان عالم صغير من طريق الجسم كذلك هو أيضاً حقير من طريق الحدوث وصح
له التأله لأنه خليفة الله في العالم والعالم مسخر له مألوه كما أن
الإنسان مألوه لله تعالى واعلم أن أكمل نشأة الإنسان إنما هي في الدنيا
وأما الآخرة فكل إنسان من الفرقتين على النصف في الحال لا في العلم فإن كل
فرقة عالمة بنقيض حالها فليس الإنسان إلا المؤمن والكافر معاً سعادة وشقاء
نعيم وعذاب منعم ومعذب ولهذا معرفة الدنيا أتم وتجلى الآخرة أعلى فافهم
وحل هذا القفل ولنا رمز أن تفطن وهو لفظة بشيع شنيع ومعناه بديع:
روح الوجود الكبير ... هذا الوجود الصغير
لولاه ما قال إني ... أنا الكبير القدير
لا يحجبنك حدوثي ... ولا الفنا والنشور
فإنني إن تأمل ... تني المحيط الكبير
فللقديم بذاتي ... وللجديد ظهور
والله فرد قديم ... لا يعتريه قصور
والكون خلق جديد ... في قبضتيه أسير
فجاء من هذا أني ... أنا الوجود الحقير
وإن كل وجود ... على وجودي يدور
فلا كليلي ليل ... ولا كنوري نور
فمن يقل في عبد ... أنا العبيد الفقير
أو قال إني وجود ... أنا الوجود الخبير
فصحني ملكاً تجدني ... أو سوقة ما تجور
فيا جهولاً بقدري ... أنت العليم البصير
بلغ وجودي عني ... والقول صدق وزور
وقل لقومك أني ... أنا الرحيم الغفور
وقل بأن عذابي ... هو العذاب المبير
وقل بأني ضعيف ... لا أستطيع أسير
فكيف ينعم شخص ... على يدي أو يبور
بسط
الباب وبيانه ومن الله التأييد والعون اعلموا أن المعلومات أربعة الحق
تعالى وهو الموصوف بالوجود المطلق لأنه سبحانه ليس معلولاً لشيء ولا علة
بل هو موجود بذاته والعلم به عبارة عن العلم بوجود ووجوده ليس غير ذاته مع
أنه غير معلوم الذات لكن يعلم ما ينسب إليه من الصفات أعني صفات المعاني
وهي صفات الكمال وأما العلم بحقيقة الذات فممنوع لا تعلم بدليل ولا ببرهان
عقلي ولا يأخذها حد فإنه سبحانه لا يشبه شيأ ولا يشبهه شيء فكيف يعرف من
يشبه الأشياء من لا يشبهه شيء ولا يشبه شيأ فمعرفتك به إنما هي أنه " ليس
كمثله شيء " " ويحذركم الله نفسه " وقد ورد المنع من الشرع في التفكر في
ذات الله ومعلوم ثان وهو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم لا تتصف
بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم هي في القديم إذا وصف بها
قديمة وفي المحدث إذا وصف بها محدثة لا تعلم المعلومات قديمها وحديثها حتى
تعلم هذه الحقيقة ولا توجد هذه الحقيقة حتى توجد الأشياء الموصوفة بها فإن
وجد شيء عن غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته قيل فيها موجود قديم لاتصاف
الحق بها وإن وجد شيء عن عدم كوجود ما سوى الله وهو المحدث الموجود بغيره
قيل فيها محدثة وهي في كل موجود بحقيقتها فإنها لا تقبل التجزي فما فيها
كل ولا بعض ولا يتوصل إلى معرفتها مجردة عن الصورة بدليل ولا ببرهان فمن
هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحق تعالى وليست بموجودة فيكون الحق قد
أوجدنا من موجود قديم فيثبت لنا القدم وكذلك لتعلم أيضاً أن هذه الحقيقة
لا تتصف بالتقدم على العالم ولا العالم بالتأخر عنها ولكنها أصل الموجودات
عموماً وهي أصل الجوهر وفلك الحياة والحق المخلوق به وغير ذلك وهي الفلك
المحيط المعقول فإن قلت إنها العالم صدقت أو إنها ليست العالم صدقت أو
إنها الحق أو ليست الحق صدقت تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم
وتتنزه بتنزيه الحق وإن أردت مثالها حتى يقرب إلى فهمك فانظر في العودية
في الخشبة والكرسي والمحبرة والمنبر والتابوت وكذلك التربيع وأمثاله في
الأشكال في كل مربع مثلاً من بيت وتابوت وورقة والتربيع والعودية بحقيقتها
في كل شخص من هذه الأشخاص وكذلك الألوان بياض الثوب والجوهل والكاغعد
والدقيق والدهان من غير أن تتصف البياضية المعقولة في الثوب بأنها جزء
منها فيه بل حقيقتها ظهرت في الثوب ظهورها في الكاغد وكذلك العلم والقدرة
والإرادة والسمع والبصر وجميع الأشياء كلها فقد بينت لك هذا المعلوم وقد
بسطنا القول فيه كثيراً في كتابنا الموسوم بإنشاء الجداول والدوائر ومعلوم
ثالث وهو العالم كله الأملاك والأفلاك وما تحويه من العوالم والهواء
والأرض وما فيها من العالم وهو الملك الأكبر ومعلوم رابع وهو الإنسان
الخليفة الذي جعله الله في هذا العالم المقهور تحت تسخيره قال تعالى "
وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً " منه فمن علم هذه المعلومات
فما بقي له معلوم أصلاً يطلبه فمنها ما لا نعلم إلا وجوده وهو الحق تعالى
وتعلم أفعاله وصفاته بضرب من الأمثلة ومنها ما لا يعلم إلا بالمثال كالعلم
بالحقيقة الكلية ومنها ما يعلم بهذين الوجهين وبالماهية والكيفية وهو
العالم والإنسان وصل كان الله ولا شيء معه ثم أدرج فيه وهو الآن على ما
عليه كان لم يرجع إليه من إيجاده العالم صفة لم يكن عليها بل كان موصوفاً
لنفسه ومسمى قبل خلقه فلما أراد وجود العالم وبدأه على حد ما علمه بعلمه
بنفسه انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى
الحقيقة الكلية انفعل عنها حقيقة تسمى الهباء هي بمنزلة طرح البناء الجص
ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور وهذا هو أول موجود في العالم وقد
ذكره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهل بن عبد الله رحمه الله وغيرهما من
أهل التحقيق أهل الكشف والوجود ثم إنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء
ويسمونه أصحاب الأفكار الهيولى الكل والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية
فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قوته واستعداده كما تقبل
زوايا البيت نور السراج وعلى قدر قربه من ذلك النور يشتد ضوء وقبوله قال
تعالى مثل نوره كمشكاة فيها مصباح فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه
قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل
فكان سيد العالم