الملك لولا وجود الملك ما عرفا ... ولم تكن صفة مما به وصفا
فدورة الملك برهان عليه لذا ... قد التقت طرفاها هكذا كشفا
فكان آخرها كمثل أولها ... وكان أولها عن سابق سلفا
وعندما كملت بالختم قام بها ... مليكها سيد الله معترفا
أعطاه خالقه فضلاً معارفها ... وما يكون وما قد كان وانصرفا
في معرفة دورة الملك
مرتبة العالم الذي بين عيسى ومحمد عليهما السلام وهو زمان الفترة
اعلم
أيدك الله أنه ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنا سيد ولد
آدم لا فخر بالراء وفي رواية بالزاي وهو البجح بالباطل وفي صحيح مسلم أنا
سيد الناس يوم القيامة فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر
وقال عليه السلام كنت نبياً وآدم بين الماء والطين يريد على علم بذلك
فأخبره الله تعالى بمرتبته وهو روح قبل إيجاده الأجسام الإنسانية كما أخذ
الميثاق على بني آدم قبل إيجاده أجسامهم وألحنا الله تعالى بأنبيائه بأن
جعلنا شهداء على أممهم معهم حين يبعث من كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم
وهم الرسل فكانت الأنبياء في العالم نوابه صلى الله عليه وسلم من آدم إلى
آخر الرسل عليهم السلام وقد أبان صلى الله عليه وسلم عن هذا المقام بأمور
منها قوله صلى الله عليه وسلم والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن
يتبعني وقوله في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان أنه يؤمنا أي يحكم فينا
بسنة نبينا عليه السلام ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ولو كان محمد صلى الله
عليه وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت الأنبياء وجميع الناس تحت حكم شريعته
إلى يوم القيامة حساً ولهذا لم يبعث عامة إلا هو خاصة فهو الملك والسيد
وكل رسول سواه فبعث إلى قوم مخصوصين فلم تعم رسالة أحد من الرسل سوى
رسالته صلى الله عليه وسلم فمن زمان آدم عليه السلام إلى زمان بعث محمد
صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ملكه وتقدمه في الآخرة على جميع الرسل
وسيادته فمنصوص على ذلك في الصحيح عنه فروحانيته صلى الله عليه وسلم
موجودة وروحانية كل نبي ورسول فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح
الطاهرة بما يظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسلاً وتشريعه
الشرائع كعلي ومعاذ وغيرهما في زمان وجودهم ووجود صلى الله عليه وسلم
وكإلياس وخضر عليهما السلام وعيسى عليه السلام في زمان ظهوره في آخر
الزمان حاكماً بشرع محمد صلى الله عليه وسلم في أمته المقرر في الظاهر لكن
لما لم يتقدم في عالم الحس وجود عينه صلى الله عليه وسلم أولاً نسب كل شرع
إلى من بعث به وهو في الحقيقة شرع محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان مفقود
العين من حيث لا يعلم ذلك كما هو مفقود العين الآن وفي زمان نزول عيسى
عليه السلام والحكم بشرعه وأما نسخ الله بشرعه جميع الشرائع فلا يخرج هذا
النسخ ما تقدم من الشرائع أن يكون من شرعه فإن الله قد أشهدنا في شرعه
الظاهر المنزل به صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة النسخ مع إجماعنا
واتفاقنا على أن ذلك المنسوخ شرعه الذي بعث به إلينا فنسخ بالمتأخر
المتقدم فكان تنبيهاً لنا هذا النسخ الموجود في القرآن والسنة على أن نسخه
لجميع الشرائع المتقدمة لا يخرجها عن كونها شرعاً له وكان نزول عيسى عليه
السلام في آخر الزمان حاكماً بغير شرعه أو بعضه الذي كان عليه في زمان
رسالته وحكمه بالشرع المحمدي المقرر اليوم دليلاً على أنه لا حكم لأحد
اليوم من الأنبياء عليهم السلام مع وجود ما قرره صلى الله عليه وسلم في
شرعه ويدخل في ذلك ما هم عليه أهل الذمة من أهل الكتاب ماداموا يعطون
الجزية عن بدوهم صاغرون فإن حكم الشرع على الأحوال فخرج من هذا المجموع
كله أنه ملك وسيد على جميع بني آدم وإن جميع من تقدمه كان ملكاً له وتبعاً
والحاكمون فيه نواب عنه فإن قيل فقوله صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني
فالجواب نحن ما فضلناه بل الله فضله فإن ذلك ليس لنا وإن كان قد ورد أولئك
الذين هدى الله فبهداهم اقتده لما ذكر الأنبياء عليهم السلام فهو صحيح
فإنه قال فبهداهم وهداهم من الله وهو شرعه صلى الله عليه وسلم أي الزم
شرعك الذي ظهر به نوابك من إقامة الدين ولا تتفرقوا فيه فلم يقل فيهم
اقتده وفي قوله ولا تتفرقوا فيه تنبيه على أحدية الشرائع وقوله اتبع ملة
إبراهيم وهو الدين فهو مأمور باتباع الدين فإن الدين إنما هو من الله لا
من غيره وانظروا في قوله عليه السلام لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن
يتبعني فأضاف الاتباع إليه وأمر هو صلى الله عليه وسلم باتباع الدين وهدي
الأنبياء لا يهم فإن الإمام الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نوابه حكم
إلا له فإذا غاب حكم النواب بمراسمه فهو الحاكم غيباً وشهادة وما أوردنا
هذه الأخبار والتنبيهات إلا تأنيساً لمن لا يعرف هذه المرتبة من كشفه ولا
أطلعه الله على ذلك منفسه وأما أهل الله فهم على ما نحن عليه فيه قد قامت
لهم شواهد التحقيق على ذلك من عند ربهم في نفوسهم وإن كان يتصور على جميع
ما أوردناه في ذلك احتمالات كثيرة فذلك راجع إلى ما تعطيه الألفاظ من
القوة في أصل وضعها لا ما هو عليه الأمر في نفسه عند أهل الأذواق الذين
يأخذون العلم عن الله كالخضر وأمثاله فإن الإنسان ينطق بالكلام يريد به
معنى واحداً مثلاً من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام فإذا فسر بغير
مقصود المتكلم من تلك المعاني فإنما فسر المفسر بعض ما تعطيه قوة اللفظ
وإن كان لم يصب مقصود المتكلم ألا ترى الصحابة كيف شق عليهم قوله تعالى "
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " فأتى به نكرة فقالوا وأينا لم يلبس
إيمانه بظلم فهؤلاء الصحابة وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ما عرفوا
مقصود الحق من الآية والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور فقال لهم النبي
صلى الله عليه وسلم ليس الأمر كما ظننتم وإنما أراد الله بالظلم هنا ما
قال لقمان لابنه وهو يعظمه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم فقوة
الكلمة تعم كل ظلم وقصد المتكلم إنما هو ظلم معين مخصوص فكذلك ما أوردناه
من الأخبار في أن بني آدم سوقة وملك لهذا السيد محمد صلى الله عليه وسلم
هو المقصود من طريق الكشف كما كان الظلم هناك المقصود من المتكلم به الشرك
خاصة ولذلك تتقوى التفاسير في الكلام بقرائن الأحوال فإنها المميزة
للمعاني المقصودة للمتكلم فكيف من عنده الكشف الإلهي والعلم اللدني
الرباني فينبغي للعاقل المنصف أن يسلم لهؤلاء القوم ما يخبرون به فإن
صدقوا في ذلك فذلك الظن بهم وانصفوا بالتسليم حيث لم يرد المسلم ما هو حق
في نفس الأمر وإن لم يصدقوا لم يضر المسلم بل انتفعوا حيث تركوا الخوض
فيما ليس لهم به قطع وردّوا علم ذلك إلى الله تعالى فوفوا الربوبية حقها
إذ كان ما قاله أولياء الله ممكناً فالتسليم أولى بكل وجه وهذا الذي نزعنا
إليه من دورة الملك قال به غيرنا كالإمام أبي القاسم بن قسي في خلعه وهو
روايتنا عن ابنه عنه وهو من سادات القوم وكان شيخه الذي كشف له على يديه
من أكبر شيوخ المغرب يقال له ابن خليل من أهل لبله فنحن ما نعتمد في كل ما
نذكره الأعلى ما يلقى الله عندنا من ذلك لا على ما تحتمله الألفاظ من
الوجوه وقد تكون جميع المحتملات في بعض الكلام مقصودة للمتكلم فنقول بها
كلها فدورة الملك عبارة عما مهد الله من آدم إلى زمان محمد صلى الله عليه
وسلم من الترتيبات في هذه النشأة الإنسانية بما ظهر من الأحكام الإلهية
فيها فكانوا خلفاء الخليفة السيد فأول موجود ظهر من الأجسام الإنسانية كان
آدم عليه السلام وهو الأب الأول من هذا الجنس وسائر الآباء من الأجناس
يأتي بعد هذا الباب إن شاء الله وهو أول من ظهر بحكم الله من هذا الجنس
ولكن كما قررناه ثم فصل عنه أباً ثانياً لنا سماه أما فصح لهذا الأب الأول
الدرجة عليها لكونه أصلاً لها فختم النواب من دورة الملك بمثل ما به بدأ
لينبه على أن الفضل بيد الله وإن ذلك الأمر ما اقتضاه الأب الأول لذاته
فأوجد عيسى عن مريم فتنزلت مريم منزلة آدم وتنزل عيسى منزلة حواء فكما
وجدت أنثى من ذكر وجد ذكر من أنثى فختم بمثل ما به بدأ في إيجاد ابن من
غير أب كما كانت حواء من غير أم فكان عيسى وحواء أخوان وكان آدم ومريم
أبوان لهما إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فأوقع التشبيه في عدم الأبوة
الذكرانية من أجل أنه نصبه دليلاً لعيسى في براءة أمه ولم يوقع التشبيه
بحواء وإن كان الأمر عليه لكون المرأة محل التهمة لوجود الحمل إذ كانت
محلاً موضوعاً للولادة وليس الرجل بمحل لذلك والمقصود من الأدلة ارتفاع
الشكوك وفي حواء من آدم لا يقع الالتباس لكون آدم ليس محلاً لما صدر عنه
من الولادة وهذا لا يكون دليلاً إلا عند من ثبت عنده وجود آدم وتكوينه
والتكوين منه وكما لا يعهد ابن من غير أب كذلك لا يعهد من غير أم فالمثل
من طريق المعنى إن عيسى كحواء ولكن لما كان الدخل يتطرق في ذلك من المنكر
لكون الأنثى كما قلنا محلاً لما صدر عنها كظهور حواء من آدم من غير أم وهو
الأب الثاني ولما انفصلت حواء من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية
إليها التي وقع بها الغشيان لظهور التناسل والتوالد وكان الهواء الخارج
الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لاخلاء في العالم فطلب ذلك الجزء
الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب مزضعه فوجده
معموراً بحواء فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي ذلك
سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع لكن الإنسان هو الكلمة
الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه وليس الإنسان بجزء لواحد
من العالم وكان سبب هذا بهذا الالتحام الطبيعي الإنساني الكامل بالصورة
الذي أراده الله ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه
بالعقل الأول والنفس الكل وإذا قلت القلم الأعلى فتفطن للإشارة التي تتضمن
الكاتب وقصد الكتابة فيقوم معك معنى قول الشارع إن الله خلق آدم على صورته
ثم عبارة الشارع في الكتاب العزيز في إيجاد الأشياء عن كن فأتى بحرفين
اللذين هما بمنزلة المقدمتين وما يكون عند كن بالنتيجة وهذان الحرفان هما
الظاهران والثالث الذي هو الرابط بين المقدمتين خفي في كن وهو الواو
المحذوف لالتقاء الساكنين كذلك إذا التقى الرجل والمرأة لم يبق للقم عين
ظاهرة فكان القاؤه النطفة في الرحم غيباً لأنه سر ولهذا عبر عن النكاح
بالسر في اللسان قال تعالى " ولكن لا تواعدوهن سراً " وكذلك عن الإلقاء
يسكنان عن الحركة ويمكن إخفاء القلم كما خفي الحرف الثالث الذي هو الواو
من كن للساكنين وكان الواو لأن له العلو لأنه متولد عن الرفع وهو إشباع
الضمة وهو من حروف العلة وهذا الذي ذكرناه إنما هو إذا كان الملك عبارة عن
الأناسي خاصة فإن نظرنا إلى سيادته على جميع ما سوى الحق كما ذهب إليه بعض
الناس للحديث المروي أن الله يقول لولاك يا محمد ما خلقت سماء ولا أرضاً
ولا جنة ولا ناراً وذكر خلق كل ما سوى الله فيكون أول منفصل فيها النفس
الكلية عن أول موجود وهو العقل الأول وآخر منفصل فيها حواء عن آخر موجود
آدم فإن الإنسان آخر موجود من أجناس العالم فإنه ما ثم إلا ستة أجناس وكل
جنس تحته أنواع وتحت الأنواع أنواع فالجنس الأول الملك والثاني الجان
والثالث المعدن والرابع النبات والخامس الحيوان وانتهى الملك وتمهد واستوى
وكان الجنس السادس جنس الإنسان وهو الخيفة على هذه المملكة وإنما وجد
آخراً ليكون إماماً بالفعل حقيقة لا بالصلاحية والقوة فعندما وجد عينه لم
يوجد إلا والياً سلطاناً ملحوظاً ثم جعل له نواباً حين تأخرت نشأة جسده
فأول نائب كان له وخليفة آدم عليه السلام ثم ولد واتصل النسل وعين في كل
زمان خلفاء إلى أن وصل زمان نشأة الجسم الطاهر محمد صلى الله عليه وسلم
فظهر مثل الشمس الباهرة فاندرج كل نور في نروه الساطع وغاب كل حكم في حكمه
وانقادت جميع الشرائع إليه وظهرت سيادته التي كانت باطنة فهو الأول والآخر
والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم فإنه قال أوتيت جوامع الكلم وقال عن ربه
ضرب بيده بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فعلمت علم الأولين والآخرين
فحصل له التخلق والنسب الإلهي من قوله تعالى عن نفسه هو الأول والآخر
والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم وجاءت هذه الآية في سورة الحديد الذي
فيه بأس شديد ومنافع للناس فلذلك بعث بالسيف وأرسل رحمة للعالمين وكل
منفصل عن شيء فقد كان عامراً لما عنه انفصل وقد قلنا أنه لا خلاء في
العالم فعمر موضع انفصاله بظله إذ كان انفصاله إلى النور وهو للظهور فلما
قابل النور بذاته امتد ظله فعمر موضع انفصاله فلم يفقده من انفصل عنه فكان
مشهوداً لمن انفصل إليه ومشهوداً لمن انفصل عنه وهو المعنى الذي أراده
القائل بقوله " شهدتك موجوداً بكل مكان " فمن أسرار العالم أنه ما من شيء
يحدث إلا وله ظل يسجد لله ليقوم بعبادة ربه على كل حال سواء كان ذلك الأمر
الحادث مطيعاً أو عاصياً فإن كان من أهل الموافقة كان هو وظله على السواء
وإن كان مخالفاً ناب ظله منابه في الطاعة لله قال الله تعالى وظلالهم
بالغدو والآصال السلطان ظل الله في الأرض إذ كان ظهوره بجميع صور الأسماء
الإلهية التي لها الأثر في عالم الدنيا والعرش ظل الله في الآخرة
فالظلالات أبداً تابعة للصورة المنبعثة عنها حساً ومعنى فالحس قاصر لا
يقوى قوة الظل المعنوي للصورة المعنوية لأنه يستدعي نوراً مقيداً لما في
الحس من التقييد والضيق وعدم الاتساع ولهذا نبهنا على الظل المعنوي بما
جاء في