1- بداية ينبغي أن ندرك بأن الأمر فيها لا يتعلق بفعل تترتب عليه صحة
الصلاة أو بطلانها, غاية ما في الأمر أنه فعل مندوب أو مخالفته, وما قال
أحد من أئمة المذاهب القائلين بالقبض بأن السدل مبطل للصلاة, كما لم يقل
القائلون بالسدل بأن القبض مبطل للصلاة.
2- أن قواعد المذهب ومصنفاته شاهدة بترجيح السدل على القبض لكثرة النقول وقوتها, ولكونه المنصوص عليه في المدونة.
3- أن أحاديث القبض كلها مروية عن طريق الإمام مالك رحمه الله, وهي في
الموطإ ولا يعقل أن يرويها الإمام في موطئه ثم يخالفها عملا لغير علة بها,
أو دليل أقوى منها.
4- كثرت المصنفات في هذه المسألة وأشبعت دراسة بما يغني عن الخوض فيها,
ولعل من أهم المصنفات فيها قديما وحديثا مما أفرد لها:-شفاء السالك في
إرسال مالك للعلامة المحدث ملا علي القاري الحنفي :تـ:1014هـ
- رسالة في حكم السدل, للعلامة محمد بن محمد المغربي الشنقيطي.
- القول الفصل في سنية السدل, للعلامة الفقيه محمد بن عابد بن حسين الأزهري
- أعذب المقال في دليل الإرسال, لنفس المؤلف.
- نهاية العدل في أدلة السدل. لنفس المؤلف أيضا.
- إبرام النقض لما قيل من أرجحية القبض للعلامة محمد الخضر بن مايابي الشنقيطي مفتي المالكية بالحرم المكي. تـ:1353هـ
- نصرة الفقيه السالك على من أنكر مشهورية السدل في مذهب مالك, للعلامة الشيخ محمد يوسف الشهير بالكافي تـ:1379هـ
- مشروعية السدل في الفرض للشيخ مختار بن امحيمدات الداودي.
- رسالة في حكم سدل اليدين في الصلاة على مذهب الإمام مالك. للعلامة محمد
بن محمد المغربي الشنقيطي. وهو من أنفس ما وقفت عليه من المصنفات.
ونظرا لكثرة ما صنف ما أرى حاجة لمزيد المناقشة, أما من حيث الأدلة التي
يوردها المؤيدون للسدل فأكتفي هنا بإثبات هذا المقال وأرى فيه الغناء بإذن
الله.
في بعض أدلة السنة لسدل اليدين
أدلة سدل اليدين في الصلاة متعددة، وسنورد لعضها على سبيل الاختصار، فمهنا:
(1) حديث الطبراني في الكبير ولفظه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
كان في صلاته رفع يديه قبال أذنيه فإذا كبر أرسلها)*1* أهـ. المراد منه،
وهو يوافق معناه ما جاء في حديث أبي حميد الساعدي الآتي، انظر كتاب إبرام
النقض لابن ما يابا ص (32).
(2) ومن الأدلة للسدل كذلك حديث أبي حميد الساعدي الذي أخرجه البخاري وأبو
داود، وهو في سنن أبي داود من طريق أحمد بن حنبل قال: اجتمع أبو حميد مع
نحو عشرة من الصحابة من بينهم سهل بن سعد، فذكروا صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قالوا: ولم، فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعاً ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى،
قالوا: فاعرض، قال: كان إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما
منكبيه ثم يكبر حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلاً ثم يقرأ ثم يكبر فيركع)*2*
أهـ. المراد منه، ولما فرغ قالوا له صدقت، ومعلوم أن موضع اليدين من
الإنسان القائم جنباه لا صدره، وسهل بن سعد راوي حديث (كان الناس يؤمرون أن
يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى) بين الحاضرين، ولو لم يكن يعلم أن
الحديث ترك العمل به لقال له تركت وضع اليد على اليد، وهو إنما قال له
صدقت، انظر سنن أبي داود ج1 ص (194) وإبرام النقض لابن ما يابا، محمد الخضر
ص (18 - 32). ولأبي حميد رواية أخرى في نعت كيفية صلاته صلى الله عليه
وسلم بالفعل ترك فيها اليدين حتى استقرتا في موضعهما، وهذه الرواية الفعلية
التي ذكرها الطحاوي وابن حبان ونقلها ابن ما يابا في إبرام النقض ص (27).
(3) ومن أدلته أيضاً ما نقل عن الحافظ ابن عبدالبر في كتاب العلم أنه قال:
(لقد نقل مالك حديث السدل عن عبدالله بن الحسن) أهـ.*3* أنظر إبرام النقض ص
(39).
(4) ومنها ما روي من كون العلماء قد أثبتوا كون عبدالله بن الزبير كان لا
يقبض ولا يرى أحداً قابضاً إلا فك يديه، وقد نقل الخطيب في تاريخ بغداد كون
عبدالله بن الزبير أخذ صفة الصلاة من جده أبي بكر الصديق رضي الله عنه،
وهذا يظهر منه على هذا القول كون أبي بكر رضي الله عنه كان لا يقبض، أنظر
إبرام النقض ص (3 وكتاب القول الفصل ص (24)، وهذه الرواية عن عمله، وروى
عنه علمه بوقوع القبض، والظاهر تأخر العمل*4*.
(5) ومنها ما نقله ابن أبي شيبة عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وسعيد بن
المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير، فقال إنهما كانوا لا يقبضون في الصلاة،
وهم من كبار التابعين الآخذين عن الصحابة رضي الله عنهم ومعترف لهم بالعلم
والورع، انظر إبرام النقض ص (33). ومثلهم أبو مجلز وعثمان النهدي وأبو
الجوزاء، فقد نقل هؤلاء أن القبض خاص بأحبار اليهود وبالمسيحيين، فقد سئل
ابن سيرين عن وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة فقال: إنما ذلك من أجل
الروم، وقال الحسن البصري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى
أحبار اليهود واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة).*5* المرجع السابق ص
(34) نقلاً عن ابن أبي شيبة.
(6) ومن الأدلة أيضاً كون السدل قال العلماء إنه إما ندب أو مباح، وحين
حاول أحد علماء الشافعية أن يقول إنه مكروه رد عليه الآخرون بأن الإمام
الشافعي في الأم قال إنه لا بأس به لمن لا يعبث بيديه في الصلاة. وأما
القبض ففيه مع قول الندب قول بالكراهة وقول بالمنع، فصار من الشبه التي
يطلب تركها بالحديث المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين
والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات..) الحديث، وحرمته نقلها محمد السنوسي في
كتابه (شفاء الصدر باري المسائل العشر) وكذلك نقلها الحطاب وغيره عند
الكلام على القبض في الصلاة*6*.
(7) ومن الأدلة أيضاً حديث المسيء صلاته الذي ذكرته رواية الحاكم عنه، وهي
على شرط الشيخين، وفيها فروض الصلاة ومندوباتها ولم يذكر فيها القبض، ولفظه
- بعد أن طلب المسيء صلاته أن يُعلَّم - قال له النبي صلى الله عليه وسلم
أنه تلزمه الطهارة، ثم يكبر فيحمد الله ويمجده ويقرأ من القرآن ما أذن الله
فيه، ثم يكبر فيركع ويضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويستوي، ثم
يقول: سمع الله لمن حمده، ويستوي قائماً حتى يأخذ كل عظم مأخذه، ثم يقيم
صلبه ثم يكبر فيسجد فيمكن جبهته من السجود حتى تطمئن مفاصله، ويستوي ثم
يكبر فيرفع رأسه ويستوي قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه، وصفَ الصلاة هكذا
حتى فرغ ثم قال: (لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك) فرواية هذا الحديث من
طريق الحاكم مصرحة بانحصار ما يفعل في الصلاة من الفروض والمندوبات ولم
تذكر القبض، وقد قال ابن القصار وغيره إن هذا من أوضح الأدلة على عدم طلب
القبض في الصلاة، انظر (القول الفصل) للشيخ عابد المكي ص (9) - وهو مفتي
المالكية بمكة قديماً - طبعة أبي ظبي*7*.
ومن الأحاديث المماثلة له في الدلالة على عدم ذكر القبض بين مندوبات الصلاة
ما أخرجه أبو داود وصححه عن سالم البراد قال: أتينا عقبة بن عامر فقلنا
له: حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام في المسجد فكبر،
فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه
حتى استقر كل شيء منه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، فقام حتى استقر كل شيء
منه، ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء
منه، ثم كبر ورافع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء، ففعل ذلك أيضاً، ثم صلى
أربع ركعات مثل هذه الركعة، ثم قال: هكذا رأيناه صلى الله عليه وسلم
يصلي*8*، فهذا حصر عند العلماء لم يبق بعده شيء دال على طلب القبض بصفته
مندوباً لأن المندوبات جاءت بالتمام، فهو دال على أن آخر عمله صلى الله
عليه وسلم تركه للقبض إن صح فعله له.
(9) ومن الأدلة كذلك حديث النهي عن الاكتتاف في الصلاة، والقبض عندهم هو
الاكتتاف، كما ورد في كتاب القول الفصل ص (35)، والحديث أخرجه الإمام مسلم،
ولفظه هو أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال لمن رآه يصلي ضافراً
رأسه: ر تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مثل هذا
كمثل من يصلي وهو مكتوف) *9*.أهـ. من تيسير الوصول الجامع الأصول ج2 ص
(243).
(01) ومن الأدلة كذلك كون السدل هو الأصل في بني البشر، واستصحاب الأصل
قاعدة متبعة عند جل علماء الأمة حتى يصرف عنها دليل غير معارض بما هو أقوى
منه، ومثل استصحاب الأصل البراءة الأصلية، قال في مرتقى الأصول:
ونوع الاستصحاب ما أبانا **** إبقاء ما كان على ما كانا
ومثله البراءة الأصليه **** وهي البقاء على انتفا الحكميه
حتى يدلنا دليل شرعا **** على خلاف الحكم فيهما معا
انظر شرح محمد يحيى الولاتي على مرتقى الأصول ص (315) وما بعدها، وهذه
القاعدة هي التي جعلت المدعي بمال - مثلاً - لا يلزمه شيء استصحاباً لأصل
البراءة حتى يشهد عليه عدلان، قال صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو
يمينه)*10*.
(11) ومن الأدلة أيضاً كون الإمام أحمد قد أخرج في مسنده أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان آخر الأمر عنده النهي عن موافقة أهل الكتاب، وهذا بعد أن
كان يحب موافقتهم فيما لم ينزل عليه شيء فيه، وقبضُ اليدين من عمل أهل
الكتاب كما نقله ابن أبي شيبة عن الحسن البصري وابن سيرين من الأئمة كما
قدمنا، انظر (إبرام النقض لما قيل من أرجحية القبض) للشيخ محمد الخضر بن ما
يابا الشنقيطي ص (33) وما بعدها*11*. فهذا من الأدلة كاف لصحة ما نقل في
المدونة من كراهية القبض لليدين في الصلاة.
وقد أتبعه صاحبه بتعليق على كل الأأحاديث الثاتة في القبض
منقووووووول