ما هي الصوفية؟
كي نفهم سيرة الشيخ خالد النقشبندي ينبغي أن نعرف ما هي النقشبندية؟
ولا سبيل إلى معرفة النقشبندية إلا بوقفة عند الصوفية والتصوف.
ويستفاد
من الدراسات الخاصة بهذا المجال أن الصوفية ثقافة عرفانية الطابع، تقوم
على الكشف الإشراقي الوجداني، وليس على الاستدلال العقلي البرهاني، وجاء في
(موسوعة لالاند الفلسفية، 2/848):
" الصوفيّة Mysticisme اعتقاد
بإمكان اتحاد حميم ومباشر بين الروح البشرية ومبدأ الكون الأساس... وهي
حالة ينقطع فيها كل اتصال بالعالم الخارجي، وتشعر فيها النفس بالاتصال مع
شيء داخلي، هو الكائن الكامل، الكائن اللامتناهي، الله ".
وجاء في (الموسوعة الفلسفية العربية، 1/258):
"
التصوّف بوجه عام فلسفة حياة، وطريقة معينة في السلوك، يتخذهما الإنسان
لتحقيق كماله الأخلاقي، والاتصال بمبدأ أسمى، وعرفانه بالحقيقة، وتحقيق
سعادته الروحية ".
والحق أن التصوف ظاهرة مشتركة بين ديانات وفلسفات
وحضارات متباينة، ومن الطبيعي أن يعبّر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود
مجتمعه من عقائد وأفكار، ويُخضع تعبيره عنها أيضاً لما يسود عصره من
اضمحلال أو ازدهار. ويقوم التصوف على خمس خصائص نفسية وأخلاقية
وإبستمولوجية (معرفية) هي: الترقي الأخلاقي، والفناء في الحقيقة المطلقة،
والعرفان الذوقي المباشر، والطمأنينة، والرمزية في التعبير.
ما أصل (صوفي)؟
لقد
تعدّدت الآراء في تحديد أصل كلمة (صوفي) (الموسوعة الفلسفية العربية،
1/260)، فعدّه بعض الباحثين مشتقاً من الصفاء، ومن الصفو، ونسبوه تارة أخرى
إلى أهل الصُفّة، وكانوا من فقراء المهاجرين والأنصار، يقيمون في صُفّة
(رواق) بمؤخرة مسجد الرسول في المدينة، وكانوا معروفين بالزهد والعبادة.
والحقيقة أنه لا أصل لكلمة (صوفي) في العربية من جهة الاشتقاق أو القياس،
وقد قال أحدهم:
تنازع النـاسُ في الصوفيّ واختلفوا
وظنّه البعض مشـتقاً من الصوفِ
ولستُ أمنح هــذا الاسمَ غيرَ فتًى
صافى فصُوفيَ حتى سُمّي: الصوفي
والأرجح
أن لكلمة (صوفي) علاقة بكلمة (سوفيا) اليونانية التي تعني الحكمة، ويرى
بعض الباحثين أن جذور التصوف تعود إلى توجّه عرفاني قديم في الثقافة
اليونانية تسمى (غنوصية) Gnosis، قال الدكتور عبد القادر محمود في كتابه
(الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص 4):
" الغنوصية Gnosis كلمة يونانية
معناها المعرفة، ولكنها تطورت حتى أخذت معنى اصطلاحياً هي التوصل بنوع من
الكشف إلى المعارف العليا، أو هو تذوّق المعارف تذوّقاً مباشراً، بأن تلقى
فيه إلقاء، فلا تستند إلى الاستدلال والبرهنة العقلية ".
وألفت
الانتباه ها هنا إلى القرابة الصوتية والمعنوية بين كلمة غنوصي Gnosis
اليونانية، وكلمة Gi nasi الكردية، والتي تعني المعرفة الكلية الشاملة،
ومثلها كلمة (ناسك)، يقابلها في الكردية كلمة Nasik التي تعني العارف، بل
أجد قرابة صوتية ودلالية بين كلمة (الناس) العربية ومشتقات كلمة Nas
الكردية المشتملة على معنى (التعرّف)، علماً بأنه لا يوجد جذر لغوي لكلمة
(ناس) في العربية.
وكم هو رائع أن يقوم اللغويون العرب والكرد بتتبّع
ظاهرة التشابه اللغوي بين بعض الكلمات العربية والكردية، فالمعروف أن
الشعبين العربي والكردي كانا- وما زالا- متجاورين جغرافياً منذ ما قبل
الإسلام بقرون كثيرة، ولم يكن بينهما سد يأجوج ومأجوج، ولا ريب أن الجوار
الجغرافي أتاح الفرصة لتفاعل ثقافي قبل الإسلام بقرون كثيرة، وما نلاحظه من
تشابه وتقارب في بعض الكلمات العربية والكردية صوتاً ودلالة هو من آثار
ذلك التفاعل.
مراحل العرفان الصوفي
أرجع
الباحثون التصوف الإسلامي إلى أربعة مصادر: مصدر فارسي، مصدر هندي، مصدر
مسيحي، مصدر يوناني؛ إضافة إلى المصدر الإسلامي. وقد مرّ التصوف الإسلامي
بالمراحل الآتية:
• مرحلة الزهد في القرنين الأول والثاني الهجريين، ومن رجاله الحسن البصري (ت 110 هـ).
•
مرحلة التأسيس في القرنين الثالث والرابع، وظهر فيها مصطلح (الصوفية)،
وتحدث الصوفية عن السلوك إلى الله، والمقامات والأحوال، والمعرفة الكشفية،
والفناء، والاتحاد، والحلول، كما حدّدوا رسوماً معيّنة لطريقتهم، وأصبحت
لهم لغة اصطلاحية خاصة، وصار التصوف طريقاًًَ للمعرفة بعد أن كان طريقاً
للعبادة، وظهر في هذه المرحلة فريقان من الصوفية:
- فريق ربط التصوف بالكتاب والسنّة، وراح يزنه بميزان الشريعة، ومن مشاهيرهم معروف الكَرْخي (ت 200 هـ)، والجُنَيْد (ت 297 هـ).
- وفريق ثان شطح وقال بالاتحاد والحلول، ومن مشاهيرهم أبو منصور الحلاّج (قتل سنة 301 هـ).
• مرحلة التطوير منذ القرنين السادس والسابع، وظهر فيها تياران للتصوف:
-
تيار فلسفي: مزج التذوق الصوفي بالنظر العقلي، متأثراً بمصادر يونانية
وفارسية وهندية ومسيحية، ومن مشاهيرهم السّهْرَوَرْدي (قتل سنة 587 هـ)،
ومحيي الدين بن عربي (قتل سنة 638 هـ).
- تيار عملي: يمثله أصحاب الطرق، ومن رجاله عبد القادر الكيلاني (ت 561 هـ)، وأحمد الرفاعي (ت 578 هـ)، وأحمد البدوي (ت 675 هـ).
(انظر: الدكتور معن زيادة: الموسوعة الفلسفية العربية، 1/261 – 265).
والحق
أن التراث الصوفي الأصيل يمتاز بتجارب نفسية عميقة، وهو غني بالآراء
الدقيقة في عالم الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، إنه دعوة إلى الارتقاء
نحو الأنبل والأكمل، ولنتأمل هذا الحوار القصير الذي دار بين إبراهيم بن
أدهم ومعاصره شَقِيق البَلْخي، وقد أورده ابن الملقِّن في كتابه (طبقات
الأولياء، ص 8 – 9):
- إبراهيم: علامَ أصّلتم أصولكم؟
- شقيق: إذا رُزقنا أكلنا، وإذا مُنِعنا صبرنا.
-
إبراهيم: هكذا كلاب بلخ؛ إذا رُزقتْ أكلت، وإذا مُنعتْ صبرت. إنّا أصّلنا
أصولنا على أننا إذا رُزقنا آثرْنا، وإذا مُنعنا حَمَدْنا وشكرْنا.
فقام شقيق، وقعد بين يديه، وقال: أنت أستاذنا.
وشتّان بين الرؤيتين!
الطريقة النقشبندية
النقشبندية
تسمية فارسية كردية مستمدة من كلمة (نقش بَنْد) بمعنى (عامل النقش)،
وأسسها الشيخ بهاء الدين البخاري، ونشرها نجله الشيخ محمد النقشبندي، وقد
ولد الشيخ محمد النقشبندي في مدينة بخارى سنة (717 هـ)، وتوفي فيها سنة
(789 هـ)، وفي رواية سنة (791 هـ)، وللطريقة النقشبندية مريدون من معظم
الشعوب الإسلامية، ابتداء من الهند شرقًا، ومروراً بكردستان وبلاد الشام
وتركيا، وانتهاء بدول البلقان غرباً. وذكر أحمد النقشبندي الخالدي في كتابه
(جامع الأصول، ص 23- 24) أن الطريقة النقشبندية أسهل على المريد للوصول
إلى درجات التوحيد، وأضاف يقول:
" إن الجذب في هذه الطريقة مقدّم على
السلوك، ... أما بقية الطرق فمبنية على تقديم السلوك على الجذب في الأغلب،
ولذا قالوا: بداية الطريقة النقشبندية نهاية سائر الطرق؛ إلا من كان له قدم
المحبوبية والمرادية، كبعض الأولياء الذين تقدم فتحهم على السلوك ".
وقال مقارناً بين النقشبندية وغيرها من طرق الصوفية (جامع الأصول، ص 24):
"
فأول قدم يضعونه في الذكر عند النقشبندية هو القلب، ويأتي عند سائر الطرق
في المرتبة الثانية. وليس في هذه المرتبة كثرة الجوع وكثرة السهر، بل
الاعتدال يصحبها ".
ونقل طاشْكُبْري زاده في كتابه (الشقائق النعمانية،
ص 155) أن الشيخ خواجه بهاء الدين النقشبندي سئل عن معنى طريقته فأجاب: "
الخلوة في الكثرة، وتوجّه الباطن إلى الحق والظاهر إلى الخلق ".
نشأة الشيخ خالد
هو
أبو البهاء ضياء الدين خالد بن أحمد بن حسين المعروف بالنقشبندي لاشتهاره
بها، وقد ذكر الشيخ عثمان بن سند النجدي في كتابه (أصفى الموارد، ص 27) أن
الشيخ خالد ولد سنة (1190 هـ) تقريباً، في (قره داغ) وتعني (الجبل الأسود)،
وهي قرية جميلة، تزدان بجمال الطبيعة من أشجار ومياه، وتقع على مسافة خمسة
أميال (8 كم) من مدينة سليمانية في جنوبي كردستان (إقليم كردستان-
العراق)، وفيها مدارس دينية عديدة وصفها النجدي (أصفى الموارد، ص 27 – 28)
بقوله:
مدارس فيها للعلـوم نفـائس
يَضُعن شذًى ما أعمل الفهمَ دارسُ
يحرّر فيها العــلمَ كلُّ محرِّر
إذا جال بحثاً فهـو لا شكّ فارسُ
ووصف محمد بن سليمان البغدادي في (الحديقة الندية، ص 3) الشيخ خالد بقوله:
" حضرة شيخنا ومولانا الشيخ خالد الشافعي الأشعري النقشبندي القادري السهروردي الكبروي الجشتي الشهرزوري ".
وينتهي
نسب الشيخ إلى پير ميكائيل، وينتهي نسب والدته إلى پير خضر؛ وكلمة (پير)
من المصطلحات الدينية والاجتماعية القديمة في كردستان، وكل من يحمل هذا
اللقب يحظى بكثير من التقدير والاحترام ، ولقب (پير) من المراتب الدينية
الكبرى في الديانة الزردشتية التي كان الكرد يعتنقونها قبل الإسلام، وما
زال الكرد الأيزديون يحتفظون بهذا اللقب في سلّم المناصب الدينية الإيزدية
إلى يومنا هذا. وفي رواية أن الشيخ خالد ينتسب إلى عشيرة ميكائيلي، إحدى
فروع قبيلة جاف الكبيرة الممتدة في شرقي كردستان وجنوبيها.
مسيرته العلمية
بدأ
الشيخ خالد مسيرته مع العلوم الدينية في إحدى مدارس قريته (قَرَه داغ)،
فحفظ القرآن في زمن قصير، ثم انكبّ على علوم اللغة من نحو وصرف، ونهل من
علوم الفقه والتصوّف، ورحل طلباً للعلم المنقول والمعقول في أرجاء جنوبي
كردستان، وتلقاه على أيدي العلماء المشهورين، ومنهم الشيخ عبد الكريم
البَرزَنْجي، فدرس عليه شرح الجامي (وهو شاعر صوفي فارسي شهير)، كما درس
على الشيخ عبد الرحيم البرزنجي، وهو أخو الشيخ عبد الكريم، ثم توجّه إلى
كوى (كويسنجق) وحرير، فقرأ كتاب شرح الجلال على تهذيب المنطق بحواشيه على
الشيخ عبد الرحيم الزياري المعروف بلقب (ملاّ زاده)، وقد وصف النجدي هذا
الشيخ في كتابه (أصفى الموارد، ص 33) بقوله:
" سطعت أنواره في الأكراد،
وتفجرت ينابيع حكمه في كل واد، ... لم يدع من الفنون فناً إلا ارتقاه، ...
ولا خفياً من الإشكالات إلا أبان محيّاه، ولا وادياً من التحقيق إلا سلكه،
ولا تِبراً من التدقيق إلا سبكه ".
ومن أساتذة الشيخ خالد في كويسنجق الشيخ عبد الرحمن، وهو حسبما ذكر النجدي في (أصفى الموارد، ص 34):
"
ممن تضرب أكباد الإبل للثم يديه، ويعوَّل في المنقول والمعقول عليه، ...
فهو الفاضل الذي أحيا للشافعي آثاره، وأعلى من الفقه بالدقائق مناره ".
وقرأ
الشيخ خالد شيئاً من شرح الجامي على الملا محمد صالح، ودرس علم المنطق على
الشيخ إبراهيم البياري، ثم شدّ الرحال إلى بغداد، فقرأ على عدد من
العلماء، وعاد من بعد إلى كردستان، فعرض عليه بعض الأمراء الكرد أن يعمل
مدرساً في إحدى مدارس العلم، فاعتذر بأنه لمّا يبلغ بعد هذا المقام، وتوجّه
بالرحلة إلى سِنَنْدَج في شرقي كردستان، وقرأ العلوم الحسابية والهندسية
والفلكية على العالم المدقق الشيخ محمد قسيم السنندجي، وعاد إلى مدينة
سليمانية ليتولّى التدريس فيها بعد وفاة أستاذه الشيخ عبد الكريم
البَرزَنْجي بالطاعون سنة (1213 هـ)، وكان خلال ذلك ينشر العلم، ولا يتردّد
على الحكام، ولا يحابي أحداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرحلة الهندية
وفي
سنة (1220 هـ) تاق الشيخ خالد إلى حج بيت الله الحرام، فبدأ (الرحلة
الحجازية) من طريق الموصل وديار بكر والرُّها وحلب ودمشق، واجتمع في هذه
الحواضر بعلمائها الأعلام، ففي دمشق سمع من مدرس دار الحديث الشيخ محمد
الكُزْبَري، وصحب تلميذه الشيخ مصطفى الكردي. ثم مضى إلى الحجاز حاجاً،
وأشار عليه بعض أهل العلم في مكة بالرحلة إلى الديار الهندية.
وبعد
تمام حجه عاد إلى مدينة سليمانية، وبدأ (الرحلة الهندية) سنة (1224 هـ) من
طريق الرَيّ (قرب طهران)، وخاض هناك مناظرة مع العالم الضليع إسماعيل
الكاشي فأفحمه، ثم دخل بِسْطام، وزار قبر الشيخ الصوفي الشهير أبي يزيد
البِسْطامي، ثم دخل طُوس، وزار فيها مشهد الإمام علي الرضا، ثم دخل مدينة
هَراة في بلاد الأفغان، واجتمع بعلمائها وحاورهم، فأقرّوا له بالفضل ثم دخل
قُنْدِهار وكابُل وبِيشاور، فامتحنه جمعٌ من علمائها، وحاور في مسائل من
علم الكلام وغيره مما تسبر به الأفهام. (انظر: أصفى الموارد، ص 59).
وانتهت
به الرحلة إلى مدينة دهلي المعروفة باسم (جهان آباد)، وهي نفسها مدينة
نيودلهي عاصمة الهند، وهناك أخذ الطريقة النقشبندية بعمومها وخصوصها
ومفهومها ومنصوصها على شيخ مشايخ الديار الهندية حضرة الشيخ عبد الله
الدهلوي، " فلم يمض عليه نحو خمسة أشهر حتى صار من أهل الحضور والمشاهدة ،
وبشره شيخه ببشارات كشفية قد تحققت بالعيان" (انظر: الحديقة الندية ، ص38).
ولم تكمل عليه السنة حتى شهد له شيخه بالوصول إلى كمال الولاية،
وأجازه بالإرشاد، وخلّفه الخلافة التامة، وبإشارة من شيخه اجتمع بالعالم
والواعظ والصوفي المولى عبد العزيز الحنفي النقشبندي، وبعد سنة من الملازمة
أجازه هذا الشيخ بإجازة لطيفة، وأمره بإرشاد المسترشدين وتربية السالكين
في كردستان والعراق والشام وغيرها من البلاد.
الرحلة الدمشقية
عاد
الشيخ خالد إلى بلاده كردستان عن طريق مسقط (عاصمة سلطنة عمان) وشيراز،
ويَزْد، وأصبهان، ثم أتى هَمَذان، وسِنَنْدَج، ووصل إلى مدينة سليمانية سنة
(1226 هـ)، فاستقبله الأعيان، وبدأ بإرشاد الناس في علمي الظاهر والباطن،
فانبرى له بعض الحساد، وكادوا له عند حاكم كردستان بأشياء كان بريئاً منها،
فرحل إلى بغداد سنة (1228 هـ)، فلاحقه الحساد والأعداء بالكيد والدسّ
هناك، وألّبوا عليه والي بغداد سعيد باشا، لكن علماء بغداد دافعوا عنه،
وفنّدوا مزاعم أعدائه.
وعاد الشيخ خالد إلى سليمانية، فبنى له أمير
الأمراء محمود باشا ابن عبد الرحمن باشا الباباني زاوية ومسجداً يأوي إليه
الفقهاء والفقراء وطلبة العلم والمريدون، قال البغدادي في (الحديقة الندية،
ص 3):
" وانتفع به خلق كثيرون من أهل بغداد، وكركوك، وأربيل والأكراد
من نواحي السليمانية وكوى والعمادية، وبعض نواحي الهكّارية وماردين وديار
بكر وعَنْتاب وحلب والشام والحرمين الشريفين ".
ويبدو أن الوقيعة دبّت
بين الشيخ خالد وبين الباشا الباباني حاكم مدينة سليمانية، نتيجة تعدّد
خصومه، ولا سيما بين بعض رجال الطريقة القادرية المنافسة من ناحية، ولأنه
بدا وكأنه منافس للباشا من حيث سعة النفوذ بين الجماهير من ناحية أخرى.
فرحل
الشيخ إلى دمشق سنة (1238 هـ) الموافق (1820 م)، وصحبه كثير من العلماء
والأشراف والخلفاء والمريدين، منهم العلامة عبيد الله أفندي الحيدري مفتي
بغداد سابقاً، والعالم العامل الشيخ إسماعيل الأناراني، والشيخ عبد القادر
الديملاني، والعلامة إسماعيل البرزنجي، والشيخ عيسى الكردي، والشيخ محمد
الفراقي، والشيخ عبد الفتاح العقري، والشيخ عبد الله الهراتي، وغيرهم.
واصطحب
الشيخ معه زوجاته الأربع وأبناءه، وأخاه محموداً وولديه، وحين وصل إلى
دمشق استقبله كثير من أهلها، ولما استقر به المقام، هُرع لزيارته الخاص
والعام، واحتفى به علماء دمشق من أمثال محدّث الديار الشامية الشيخ عبد
الرحمن الكزبري، والشيخ حامد العطّار، والشيخ حسن البيطار، والشيخ عبد
الغني السادات، والشيخ حسن الشطّي، وشرع ينشر العلوم الشرعية، ويرسخ دعائم
الطريقة النقشبندية، ويرشد السالكين، ويربي المريدين.
ويعرف ذرية الشيخ
خالد في دمشق باسم (آل الحضرة)، ويعرف ذرية أخيه الشيخ محمود باسم (آل
الصاحب)، ويسمى فرع من هؤلاء باسم (النقشبندي)، وهي أسر متوسطة فيها التجار
والموظفون ورجال الدين والضباط، ومنهم الشهيد المقدم عادل الحضرة، استشهد
في فلسطين عام (1948 م). وفيهم المحامون والمهندسون والأطباء، على أن بعضهم
لا يعرف أنه من أصل كردي إلا بالسماع. كما أن الشيخ محمد أسعد الصاحب تفقه
في الدين، ووصل إلى أرفع منصب ديني في السلطنة العثمانية، وهو (شيخ
الإسلام) على عهد السلطان محمد رشاد (انظر: منذر موصلي: عرب وأكراد ، ص 281
، 282 ).
خصال وكرامات
كان
الشيخ خالد كريم النفس، حميد الأخلاق، باذل الندى، حامل الأذى، حلو
المفاكهة والمحاضرة، رقيق الحاشية والمسامرة، ثبت الجنان، بديع البيان، طلق
اللسان، لا تأخذه في الله لومة لائم ، يتكفّل الأرامل والأيتام، شديد
الحرص على نفع الإسلام. وكان رجلاً صالحاً وتقياً ورعاً، وعالماً عاملاً،
وشاعراً لاهوتياً، عارفاً باللغات الثلاث الكردية والعربية والفارسية،
ويعود إليه الفضل في نشر الطريقة النقشبندية في كردستان وإيران والأناضول
والبلاد العربية.
أما على الصعيد العلمي فقد اتضح، من خلال رحلاته
العلمية الكثيرة والطويلة، أن الرجل لم يكن مجرد شيخ طريقة صوفية، وإنما
جمع الثقافة الشرق أوسطية في عصره من جميع جوانبها، ديناً وأدباً وعلوماً
عقلية، ويعدّ مثقفاً موسوعياً متبحّراً، وهضم العلوم السائدة في الساحة
الشرق أوسطية من بخارى ونيودلهي شرقاً إلى دمشق غرباً، وله من المؤلفات :
- شرح لطيف على مقامات الحريري (لم يكمل).
- شرح على حديث جبريل سماه: فرائد الفوائد (باللغة الفارسية).
- ديوان نظم بديع ونثر .
وذكر
له من كتب ترجمته بعض الكرامات، ومنها أن جماعة من أعدائه من أكابر مدينة
سليمانية أجمعوا على قتله، واستقر رأيهم أن يكون ذلك يوم الجمعة على باب
المسجد، فلما كان يوم الجمعة حضر إلى الصلاة وخلفاؤه معه، فلما قضيت الصلاة
خرج الخلفاء، فرأوا زهاء مئتين من الأعداء وقوفاً بالأسلحة، فانتظروه حتى
خرج آخر الناس بالسكينة والوقار، فالتفت إليهم بعين الجلال، فمنهم من سقط
في الحال، ومنهم من هرب، ومنهم من صاح وانجذب، ثم مشى مع جماعته حتى وصل
إلى زاويته.
ووصفه يوسف بن إسماعيل النبهاني في (جامع كرامات الأولياء، 2/57) بأنه:
" مجدد الطريقة النقشبندية، وهو أحد أكابر أئمة العلماء والصوفية ".
وتوفي الشيخ خالد في دمشق بالطاعون سنة (1242 هـ).
المراجع
1.
أحمد النقشبندي الخالدي: جامع الأصول (الطرق الصوفية)، تحقيق أديب نصر
الله، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م.
2. أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت- باريس، الطبعة الأولى، 1996 م.
3. خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977 م.
4. الدكتور عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، دار الفكر العربي، د. ن. 1967 م.
5. الشيخ عثمان بن سند النجدي: أصفى الموارد في سلسال أحوال الإمام خالد، المطبعة العلمية، مصر، 1310 هـ .
6. محفوظ محمد عمر العباسي: إمارة بهدينان العباسية، مطبعة الجمهورية، الموصل، 1969م .
7. محمد بن سليمان الحنفي البغدادي: الحديقة الندية في آداب الطريقة النقشبندية والبهجة الخالدية، المطبعة العلمية، مصر، 1310 هـ.
8. الدكتور معن زيادة (رئيس التحرير): الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، 1986 م.
9. ابن الملقّن: طبقات الأولياء، تحقيق نور الدين شريبة، دار المعرفة، بيروت، الطبعةالثانية، 1986 م.
10. منذر الموصلي : عرب وأكراد ، مطبعة دار العلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1991م.
11. يوسف بن إسماعيل النبهاني: جامع كرامات الأولياء ، تحقيق إبراهيم عطوَه عَوَض، المكتبة الثقافية، بيروت، 1991 م.