أما ان لنا أن نتعقل !.

بسم الله الرحمن الرحيم
كنت أقرأ في كتاب " الحب الخالد " للعالم العلامه نزيل المدينة المنورة
الشيخ " محمد الحجار " نفعنا الله بعلومه وأطال الله في عمره، فوجدت في هذا
الكتاب الثمين ما روى ظمأي وشفى عليلي
فاخترت لكم أحبتي القراء فصل من فصول هذا الكتاب الجميل، لعل الله ينفع
بهذه الكلمات، وأرجوا ممن لا يملكون ألسنتهم بالشتم والطعن فاليكن لي وليس
للشيخ، أبدأ مستعينا بالله.
قال حفظه الله :
عداء على الألفاظ
إن المصطلحات، والأسماء، والألفاظ الشائعة بين الناس، جناية على الحقائق،
وقضاء على الحق. ومن هذه المصطلحات، والأسماء العرفية التي شاعت بين الناس
لفظ: " التصوف " ومن هنا ثارت أسألة وبحوث علمية، وتسائل السائلون، ما
مدلول هذه الكلمة يا ترى؟ وما مأخذها؟ هل هو من الصوف، أو من الصفاء، أو
الصفو ؟ أو هي مأخوذة من الكلمة اليونانية: " صوفيا " أي: الحكمة ؟.
فلم نعرف لهذا الا سم أثرا في الكتاب والسنة، ولا في كلام الصحابة- رضي
الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان. وكل ما كان هذا شأنه، فأنه من البدعة
المحدثة، التي ينبغي الوقوف أمامها، وقد حميت المعركة بين أصدقائه وخصومه
والموافقين والمعارضين !.
أما إذا عدلنا عن هذا المصطلح الذي نشأ، وشاع في القرن الثان الهجري،
ورجعنا إلى الكتاب والسنة، وعصر الصحبة والتابعين، وتأملنا في القران ينوه
بشعبة من شعب الدين، ومهمة عظيمة من مهمات النبوة، يعبر عنها تارة بلفظ
التزكية، ويذكرها كركن من الأركان، التي بعث الرسول الكريم -عليه السلام-
لتحقيقها وتكميلها: ( هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم ءايته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ).
وأخرى بلفظ الأحسان، المنوه به في حديث جبريل : " أخبرني عن الأحسان؟
فأجابه عليه الصلاة والسلام بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن
تراه فإنه يراك ".
والتزكية: معناها تزكية النفوس وتهذيبها، وتحليتها بالفضائل، وتتخليتا عن الرذائل.
فكان الأجدر بنا وبالمسلمين أن يسموا " التصوف " بالتزكية، أو الأحسان، أو
فقه الباطن، لينحسم الخلاف من جذوره، ويزول الشقاق بين صفوف المسلمين،
وينصاع الفريقين اللذان فرق بينهما المصطلح، وباعد بينهما اللفظ!.
لو ترك أرباب هذا المصطلح الإلحاح على منهاج عمل خاص للوصول إلى هذه الغاية التي نعبر عنها بالإحسان، أو التزكية.
فالمنهاج والمصطلحات، تتغير وتتطور بحسب تطور الزمان، واختلاف المكان،
وطبائع الأجيال، وألحوا على الغاية، وبنوا عليها منهجهم دون الوسائل،
وتجردوا من العصبية والانتصار للألفاظ لم يختلف في هذه القضية اثنان، وخضع
الجميع، وأقروا بوجود شعبة من الدين، وركن من أركان الإسلام عظيم، إنه روح
الشريعة، ولب الحقيقة.
ومن هنا كانت جناية هذا المصطلح، والعرف الشائع على هذه الحقيقة الدينية
الناصعة عظيمة جدا، فقد حجبتها عن أنظار كثيرة، وصدت فريقا كبيرا من الناس
عن سبيلها، والغرف من معينها، والحرص على تحصيلها.
ولكن كان ذلك لأسباب تاريخية تافهة، أو أمور سياسية أو أمور سياسية يطول ذكرها.
ثم نقول، ونحن متجردون عن العلة، أو الميل لجهة، أو الأنتصار لها، الذي جنى
على هذه الحقيقة الدينية، شيء اخر، وهو أنه دخل فيها مرتزقة دجالون،
وباطنيون ملحدون، اتخذوها وسيلة لتحريف الدين عن مواضعه، وإضلال المسلمين،
وإفساد المجتمع، ونشر الإباحية، وتزعموا هذا الفن وحملوا لواءه! واتخذوا
هذا الشعار حرفة، والانتساب لهذا الطائفة مهنة، فأكلوا الدنيا بالدين،
وسودوا وجه الحق!.
فما ذنب الصادق الصدوق؟ فهل يؤخذ البريء بجريرة المسيء ؟.
ولكن الله تعالى، قيض للمسلمين في كل عصر وجيل، من ينفي عن هذا الدين تحريف
الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويدعون إلى التزكية الخالصة
من شوائب العجمة والفلسفة، وينفخون في الأمة روحا جديدة من الإيمان
والإحسان.
ويجددون صلة القلوب بالله، والأجسام بالأرواح، والمجتمع بالأخلاق، والجرأة
على الجهر بالحق عند سلطان جائر، والاستهانة بالمظاهر والزخارف، والقناعة
باليسير.
وقد مد أحدهم رجله عند دخول أمير جبار عليه، فأرسل له صرة كبيرة من الذهب، فردها عليه قائلا : " إن من يمد رجله، لا يمد يده ! "
فانتبهوا ياقوم ! وأمسكوا بألسنتكم وأقلامكم عن الطعن والقدح في أعراض
هؤلاء النخبة البهاليل، الذين قدموا لأمتهم أخلص النصح، ولشعبهم أعمق الجهد
في سبيل إحياء السنة، وإماتة البدعة، والسير على منهج السلف الصالح.
ولو أردنا أن نستعرض رجال التزكية، والمجددين لهذه الأمة أمر دينها، من جلة
التابعين، وكبار السلف : كالحسن البصري، وسفيان الثوري، وداود الطائي،
وعبد القادر الجيلاني، وغيرهم من الأئمة الذين سبروا غور هذا العلم، ونفذوا
إلى خفاياه، لضاق بنا هذا الكتيب.
وهكذا تناقلت هذا العلم، الذي سموه " تصوفا " الأجيال، وتداولته القرون،
فظهر- والحمد لله - رجال في القرن الأخير، كما ظهر في القرن الأول، مع وجود
العقبات الكؤود، والعدو الحقود! يمثلون ما ندرس، كسيدي أحمد المهدي،
والأمير عبدالقادر الجزائري، والشهيد حسن البنا، وسيدي أحمد الشريف، والسيد
المهدي السنوسي، وغيرهم من رجال التصوف، وأئمة التزكية، بعدما تعاورت عليه
معاول الهدم، تارة من العدو الخصم، وأخرى ممن جهلوا هذا الحكم!.
فكل من أمثال هؤلاء الأفذاذ، كان متوقد الذكاء، مرهف الذهن، موطأ الأكناف،
رضي الخلق، مولعا بهذا الفن، قد حباه الله تعالى من قوة العارضة، وسرعة
البديهة، ووضاحة البيان، مع إخلاص في الدعوة، وصدق في الحديث.
فأخذوا يجوبون في أصقاع الأرض، ويدعون الناس إلى التخلية والتحلية، ويرغبونهم بالتوبة النصوح، ويحببونهم بالجهاد.
فحصل من أثر هذا هذه تجديد في الصف، ونهضة روحية لم تكن بالحسبان.
وهكذا انطلقت من تلك الزوايا كتائب الدعوة إلى الله تعالى، وكانت الصلة
وثيقة بين الأرض والسماء، وانضم العدد الكبير من الناس لتلك الحلقات لما
وجدوا من الراحة النفسية، والهدوء الروحي، بصحبتهم لأولئك الرجال الخلص، من
أهل اليقين.
وها أنا أذكر جانبا من ذلك تتميما للفائدة فأقول :
التصوف والصوفي :
اختلفت عبارات علماء أهل هذا الفن، في حد التصوف، وتعريف الصوفي، فكل عبر عما فهم وذاق.
فبعضهم قال : التصوف، أن تكون مع الله بلا علاقة.
* وقيل : هو الدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دني.
* وقيل : أن لا تملك شيئا، ولا يملكك شيء.
* وقيل : هو الأخذ بالحقائق، والإياس مما في أيدي الخلا ئق.
* وقيل : هو الإناخة على باب الحبيب، وإن طرد.
* وقيل : الصوفي، من إذا استقبله حالان، أو خلقان كلاهما حسن، كان مع الأحسن.
* وقيل : الصوفي كالأرض، يطرح عليها كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كل مليح.
وكان إمامنا الشافعي-رضي الله تعالى عنه- يجالس الصوفية ويقول : يحتاج
الفقيه إلى معرفة اصطلاح الصوفية، ليفيدوه من العلم مالم يكن عنده.
* وقيل : هو كف فارغ، وقلب طيب.
* وقيل : هو الجلوس مع الله بلا هم.
* وقيل : هو خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الصفاء.
* وقال ابن الحاج في كتابه " المدخل " معرفا التصوف بشعره الرقيق قائلا :
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه ولا بكاؤك إن غنى المغنونا
ولا صياح ولا رقص ولا طرب ولا اختباط كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفوا بلا كدر وتتبع الحق والقران والدينا
وأن ترى خاشعا لله مكتئبا على ذنوبك طول الدهر محزونا

رأي ابن تيمية في التصوف

لقد أشبع شيخ الإسلام أحمد بن تيمية- رحمه الله تعالى - بحث التصوف إشباعا
جيدا، وأعطاه حقه إعطاء صحيحا، حيث جعل جزءا مستقلا من أكبر أجزاء كتابه : "
الفتاوى " وسماه " التصوف " وذلك لما علم من اختلاط الحابل بالنابل،
والصادق بالكاذب، وفضح بقلمه الفرق الدخيلة على هذه الطائفة، واستل
المرتزقة استلال الشعرة من العجين، وعرف الصوفية والمتصوفة، وضرب الدخلاء
بيد من حديد، كي لايبقى التباس لذي عينين، ولا شبهة لمن أراد الوقوف على
الحقيقة.
فالأمر يحتاج إلى هدوء تام، وفكر واسع، ونظر ثاقب، كي لا نقع في
العجلةالمذمومة، ونندم ولات ساعة مندم، فأعد نظرك في الموضوع، ثم اقرأ قول
ابن تيمية على مهل، وسل الله حسن الختام عند انتهاء الأجل. انتهى كلام
الشيخ محمد الحجار.
"وأختم حديثي هذا بكلمة الإمام الفخر الرازي-رحمه الله تعالى- حيث قال :
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا، كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة الله عز وجل لم يكن معاديا لأحد.
والسبب فيه : أنه ينظر من الحق إلى الخلق، فيرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر، فلا يعادي أحدا.
ولهذا قيل :
إن العارف إذا أمر : أمر برفق، ويكون ناصحا، لا بعنف وشدة، فهو مستبصر بسر الله في القدر.اه"
فتوحيد الصف، وطرح الأمور الخلافية -ولا سيما في أيامنا العصيبة- ثم البحث
الدقيق، والنظر الثاقب في ماسي المسلمين، وما وصلوا إليه اليوم، أمر لا
يختلف بوجوبه.
وأحببت أن أوشح هذا الختام بكلمة الشهيد حسن البنا-رحمه الله تعالى-حيث قال:
وأما موقفنا من الهيئات الإسلامية جميعا على اختلاف نزعتها، فموقف حب
وإخاء، موقف تعاون وولاء، نحبها، ونعاونها، ونحاول جاهدين أن نقرب وجهات
النظر، ونوفق بين مختلف الفكر توفيقا ينتصر به الحق، في ظل التعاون والحب،
ولا يباعد بيننا وبينهم، رأي فقهي، أو خلاف مذهبي: نتعاون فيما اتفقنا عليه
، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
فكيف نشتغل أيها السادة! بطرد الذباب، والأسد قد انطلق من عرينه، وأخذ بمخالبه، وله زئير يهز القلوب هزا، وهو ينشد فريسة لأشباله.
أما ان لنا أن نتعقل !.
أما ان لنا أن نتبصر !.
فالخصم قد بلغ ما بلغ من إعداد العدة لنا، ووصل إلى قمة النجاح، ونحن في الحضيض السافل ! نتخبط بالماء العكر.
اللهم وفقنا لاتباع الحق، وطريق الصدق.