السكـر من شراب الحب :
إعلم أن للحب شرابا هو تجل متوسط بين
تجليين , وهو التجلي الدائم الذي لا ينقطع , وهو أعلى مقام يتجلى الحق فيه
لعباده العارفين , وأوله تجلي الذوق , ومن لم يذقه
شربا ما عرفه .
لايعرف
الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
و أما التجلي
الذي يقع به الري فهو لأصحاب الضيق , فغاية شربهم ري ,وأما أهل السعة فلا ري
لشربهم , فإنه من قال : رويت من الحب ما عرفه , فالحب شرب بلا ري , قال بعض
المحجوبين : شربت شربة فلم أظمأ بعدها أبدا , فقال أبو يزيد :" الرجل من يحسو
البحار , ولسانه خارج على صدره من العطش " .
وكأس
شراب الحب هو القلب من المحب , لا علاقة و لا حسه , فإن القلب يتقلب من حال إلى
حال , كما أن الله الذي هو المحبوب كل يوم هو في شأن , فيتنوع المحب في تعلق حبه
بتنوع المحبوب في أفعاله , كالكأس الزجاجي الأبيض الصافي يتنوع بحسب تنوع المائع
الحال فيه , فلون المحب لون محبوبه , وليس هذا إلا للقلب , فإن العقل من عالم
التقيد , و هذا سمي عقلا من العقال , و الحس فمعلوم بالضرورة أنه من عالم التقيد
بخلاف القلب , و ذلك أن المحب له أحكام كثيرة مختلفة متضادة , فلا يقبلها إلا من
في قوته الإنقلاب معه فيها , وذلك لا يكون إلا للقلب .
و إذا
أضفت مثل هذا إلى الحق فهو قوله :" أجيب دعوة الداع إذا دعان " " و إن الله لا يمل حتى تملوا
" "ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " و الشرع كله أو أكثره في هذا
الباب, وشرابه عين الحاصل في الكأس , وقد بينا أن الكأس هو عين المظهر , والشراب
عين الظاهر فيه , و الشرب ما يحصل من المتجلي للمتجلى له , كل ذلك من تجليه سبحانه
في إسمه الجميل ,قال عليه الصلاة و السلام " إن الله جميل يحب الجمال "
وهو حديث ثابت , فوصف نفسه بأنه يحب الجمال وهو يحب العالم , فلا شيء أجمل من
العالم , وهو جميل , و الجمال محبوب لذاته , فالعالم كله محب لله , وجمال صنعته
سار في خلقه , فحب العالم بعضه بعضا هو من حب الله نفسه ,فغن الحب صفة الموجود ,
وما في الوجود إلا الله و الجلال و الجمال لله وصف ذاتي في نفسه و في صنعه ,
فالجمال هو نعوت الرحمة و الألطاف من الحضرة الإلهية بإسمه الجميل , وهو الجمال
الذي له الجلال المشهود في العالم , وأما الجلال فهو نعوت القهر من الحضرة الإلهية
الذي يكون عنده الوجود , و الهيبة التي هي من أثر الجمال , والأنس الذي هو من أثر
الجلال , نعتان للمخلوق لا للخالق , ولا لما يوصف به , فإن الأنس مشاهدة جمال
الحضرة الإلهية في القلب , وهو جلال الجمال , وأما الهيبة فهي مشاهدة جمال الله في القلب , و
أكثر الطبقة يرون الأنس و البسط من الجمال , وليس كذلك , ولا يهاب ولا يأنس إلا
موجود , ولا موجود إلا الله , فالأثر عين الصفة , و الصفة ليست مغايرة للموصوف في
حال إتصافه بها , بل هي عين الموصوف فلا محب ولا محبوب إلا الله عز وجل , فما في
الوجود إلا الحضرة الإلهية , وهي ذاته وصفاته وأفعاله. وإذا علمت أن تغير التجليات إنما كان من حيث ظهوره فيك , فوصف نفسه
بالحب من أجلك , أسكرك هذا العلم – الحاصل لك من التجلي – عن أن تكون أنت المحب
له, أي المحب من أجله , فلم تحب أحدا من أجله , وهو أحب من أجلك , فلو زلت أنت لم
يتصف هو بالمحبة , وأنت لا تزول فوصفه بالحب لا يزول .
و إذا
علمت أن شراب حبه إياك – وهو حبه إياك – أن تحبه , فإذا أحببته علمت حين شربت شراب
حبه إياك , أن حبك إياه عين حبه إياك , و أسكرك عن حبك إياه , مع إحساسك بأنك تحبه
, فلم تفرق و و هو تجلي المعرفة , فالمحب لا يكون عارفا أبدا , و العارف لا يكون
محبا أبدا , فمن هنا يتميز المحب من العارف , والمعرفة من المحبة , فحبه لك مسكر عن حبك له , وهو شراب الخمر , الذي
لو شربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لغوت عامة الأمة , وحبك له لا
يسكرك عن حبه لك , و هو شراب اللبن الذي شربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
الإسراء , فأصاب الله به الفطرة التي فطر الله الخلق عليها , فاهتدت أمته في ذوقها
وشربها , وهو الحفظ الإلهي و العصمة , و علمت ما لها و ما له في حال صحو و سكر ,
فشراب حبه لك هو العلم بأن حبك إياه من حبه إياك , فغيبك عن حبك إياه , فأنت محب لا محب , و هو المعبر عنه بالسكر , إذ
السكران هو الذي لا يعقل