قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
فبمناسبة هذا الشهر الكريم نستروح تبرّكا في علوم هذه الآيات وإعجاز القرآن فيها من كلّ وجه لقوله تعالى ( وأحاط بكلّ شيء علما )
قلت : نزول القرآن لا يكون إلاّ في شهر رمضان لأنّه أصل نزوله والأصل ثابت لا يتغيّر وإنّما هو دوران وترجع النقطة إلى مركزها , ولا يكون هذا النزول إلاّ في الليل لقوله : ( إنّا أنزلناه في ليلة القدر ) ولا يكون إلاّ في تلك الليلة التي هي ليلة القدر من حيث الزمان المقدّس , ولا يكون نزوله إلاّ بإختيار أحسن البركات الزمانية لقوله تعالى ( إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنّا منزلين ) ولا يكون النزول إلا على أشرف مجانس في الإنسان للقرآن وهو القلب لقوله تعالى : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) فجعل نزوله على القلب لأنّه حدّ الإستواء لقوله تعالى : (كذلك لنثبت بة فؤادك ورتلناة ترتيلا ) فلا يثبت الفؤاد إلاّ بالإستواء , وهو أوسط الأمور لأنّ القلب وسط بين العقل والروح فللقرآن وجه إلى العقل من القلب ووجه إلى الروح من القلب ,
ثمّ أنّه أنزل على القلب في ليلة الإثنين وهي ليلة ميلاده عليه الصلاة والسلام رمزا إلى التجلّي الأوّل والظهور الثاني بما أنّ القرآن نزل على القلب , والمرموز بالقلب هو الحضرة المحمّدية الشريفة أو تقول الحقيقة المحمّدية التي قيل فيها كناية عن ليلة القدر ( فيها يفرق كلّ أمر حكيم ) فلا يدخل هنا الأمر الغير حكيم لتعلم أنّ الله عليم حكيم لأنّ العلم يكون بحسب الحكمة لذا قالت الملائكة في هذا الظهور ( سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ) فاعترفت بالعلم والحكمة فما قالت بالقدرة ولا بالإرادة مثلا لتعلم تدقيق الإعجاز القرآني لأنّه لسان علمي وهو الصدق المطلق الذي لا نهاية لصدقه ( ومن أصدق من الله قيلا ) لتعلم أنّ الآية متى تليت لا يستقيم معها غير السمع والإنصات سبيل الفلاح , لأنّ السمع والإنصات صلاة وهي معراج وفناء , ثمّ يأتي الفلاح وهو الصحو والبقاء , لذا قيل في الآذان : حي على الصلاة , حيّ على الفلاح , والفناء لا يتحقّق إلاّ عندما تحقّق معرفة الحضرتين : الحضرة الإلهية على نعت الشهود , والحضرة المحمدية على نعت الوجود , فالفناء شهود , والبقاء وجود , وأنت بين هذا وذاك , بينهما برزخ لا يبغيان , وهو الحدّ الفاصل بين الحقيقتين , فلا يختلط هذا بهذا ( والسماء رفعها ووضع الميزان ) فنهاك عن الطغيان في الميزان وأمرك بالقسطاس المستقيم , وإلاّ فلن تصلح أن تكون خليفة لأنّ الخلافة شؤونها القسط والعدل , قال عليه الصلاة والسلام : من يعدل إذا لم أعدل أنا ؟ لأنّه الخليفة
قلت :
نزل القرآن يوم الإثنين وهذا من شؤون الحقيقة الأحمدية , ونزل أيضا على القلب , وهذا من شؤون الحقيقة المحمّدية , حتّى لا يختلط الحابل بالنابل وتجزم أنّ القرآن معجز في معانيه مرتّبة حقائقه ترتيبا لا يكيّف ولا يطاق ولا يحيط به غير من أنزله لقوله تعالى ( تنزيل من حكيم حميد ) وقوله : ( أنزله بعلمه ) وأنت لا تحيط بشيء من هذا العلم إلاّ بما شاء لقوله : ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) فتتبرأ هنا من دعواك الإحاطة
فجعل نزوله في زمان حقيقته الأحمدية التي هي أولى الحقائق ( التجلّي الأوّل ) ثمّ جعل نزوله في مكان حقيقته المحمّدية حتّى لا تجعل المخلوق عين الخالق فتميّز المراتب ولا تقف ما ليس لك به علم , وإنّما قلنا أنّ القلب حدّ الإستواء لأنّ القلب محلّ الرحمات التي هي الحقيقة الجامعة ( الرحمان على العرش إستوى ) والعرش في طيّه جميع المخلوقات وهو العرش العظيم الكريم
فتجانس نزول القرآن من حيث أنّ كلام الله مع ليلة مولده عليه الصلاة والسلام وليس من حيث يومه الذي هو يوم الجمعة بخلاف سيّدنا آدم فقد خلق في يوم الجمعة وليس في الليل , وكذلك القيامة تقوم في النهار وليس في الليل , بخلاف المولد المحمّدي فقد كان في الليل فجرا وهو الوقت الذي ينزل فيه الربّ سبحانه إلى سماء الدنيا فيستجيب وهو نهاية القرب للعطاء والإجابة كيفما كان السؤال لذا دلّك على غاية السؤال ونهايته في قوله بعد أن أعلمك بهذه الحقائق في نفس الآيات عندما ذكر شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن جعل آية : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) بين آيات الكلام على شهر القرآن الذي هو شهر الصيام كي تعرف الحقائق القرآنية , لأنّ القرآن متى أنزل على القلب في تلك الليلة يتحقّق معه النزول الإلهي وهذا يتطلّب السؤال لذا جاء بالآية تباعا حتّى يدلّك عليه فيما بين هذا وذاك فلا تختلط عليك الحقائق بما أنّه سبحانه ذكر الحقائق المحمّدية في هذا التنزيل فخاف عليك أن تحجبك عنه فدلّك بالسؤال السريع الإجابة له فلم يذكر ( قل ) بل قال ( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب ) حتّى لا تحجب بالحقائق المحمّدية عن الحقائق الإلهية فيفسد توحيدك , ثمّ رجع في الكلام عن تلك الليلة وأحكامها من حيث تحليل الرفث إلى النساء ...
فتبّين لنا نهار رمضان وهو يوم الصيام وأنّه إشراق الحضرة الإلهية على الحضرة المحمّدية حتّى فكأنّها غير مشهودة ومتى غاب الشهود عن شيء إندثر وجوده لذا قال ( فإنّي قريب ) أي أقرب منك إليهم يا محمّد فأنا ربّهم وأنت رسولهم ( وما محمّد إلاّ رسول ) لذا قال : ( أفئن مات أوقتل ) فجعل الموت شيء والقتل شيء , لأنّ الشهيد حيّ ليس بميّت ( بل أحياء عند ربّهم يرزقون ) أما الميّت فلا حياة له , وهو هنا المعبّر عنه بالفناء وهو الموت وبالبقاء وهو الشهادة , فأراد أنّه إمّا أن يكون ميّت فلا تنحجب به عليّ لعدم وجوده فلا حياة له , وإمّا أن يكون شهيدا حيّا ولكنّه باقيا بربّه فأيضا فلا تنحجب به عليّ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم لم يأتي إلينا حجابا عن الله تعالى بل جاءنا موصّلا إليه سبحانه , وبهذا نزل القرآن فإنّ مهمّة النبيّ عليه الصلاة والسلام ليس الدلالة على نفسه وإنّما الدلالة على ربّه حتّى قال الصدّيق رضي الله عنه ( من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّد قد مات ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ) فلا تنحجب به عنه في خلقه
قلت :
لم يجز الصوم في يوم الجمعة لما تعطيه الحقائق في اليوم المحمّدي لأنّ يوم الجمعة يوم محمّدي وفيه وقف في عرفة فالليل الذي يقابله هو الليل المحمّدي , وفي محتوى هذا الليل هناك حقيقته الأحمدية فهي باطن حقيقته المحمّدية لذا كان ميلاده في الليل لأنّ النزول وهو التجلّي الجمالي لا يقع إلاّ بليل لذا تجد أهل الولاية من الوارثين يحبّون الليل كثيرا ويجدون فيه راحتهم فالنهّار بالكاد يقدرون العيش أو التنفّس حتّى , فإشراقات الذات المحمّدية لا تقع إلاّ بليل وفيه تقع كثيرا المكاشفات والمنامات الصالحة من المبشّرات , لذا كان ذلك الصحابي ينظر إلى القمر ثمّ إلى وجه رسول الله فكان يجد نور رسول الله فاق نور القمر لما يتجلّى به في الليل من الحقائق المحمّدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام , فما كان يقارن ذلك بضياء الشمس لتعرف هنا معارف صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام
لهذا لمّا نزل الملك : قال له ( إقرأ ) قال : ( ما أنا بقارئ ) أي في حقيقتي الأحمدية لأنّي أمّي فيها لا أعرف غير ربّي , وربّي لا تلحقه العبارة ولا الإشارة ولا الحرف ولا العدد , فغطّه يستمدّ منه ثمّ لمّا أعاد عليه قال بنفس قوله تحقيقا لوحدة ربّه وأنّه الواحد فثنّى القول في حضرته الأحمدية أدبا وفهما وتعليما لنا وتكريما عليه أفضل الصلاة والتسليم , ثمّ قال له : ( إقرأ بإسم ربّك ) أي في اليوم المحمّدي من حقائق يوم الجمعة الذي فيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة وفيه أحكام الجزاء من ثواب وعقاب وعدل , فعدل به من الحقيقة الأحمدية إلى الحقيقة المحمّدية فعلمنا أنّ الحقيقة الأحمدية أمرها مصون وسرّ خاص برسول الله عليه الصلاة والسلام وغاية ما فعل جبريل أنّه إستمدّ منها بالضمّ له والغظّ وهو إستمداد العبودية وليس إستمداد الخصوصية , فأرجعه إلى حضرته الآدمية التي خرج في صورتها آدم , فعلمنا هنا جمعه عليه الصلاة والسلام لمقام الخلافة الذي بشّر به آدم وبني البشر , فخرج في صورة الخلافة التي أخبر الله عنها الملائكة الكرام في حقائقه الثلاث : حقيقته الأحمدية , وحقيقته المحمّدية وحقيقته البشرية , فهذه حضرات الإستمداد من رسول الله عليه الصلاة والسلام , فكلّ العالم مستمدّ من هذه الثلاث حقائق , فعلمنا أنّ اليوم الذي لا يجوز فيه الصوم إلاّ مقرونا وهو يوم الجمعة فيه حقائق محمّدية وأنّه يوم الجمع في رسول الله عليه الصلاة والسلام فخرج آدم في اليوم المحمّدي وفي خلقه الله تعالى لتعلم هنا تعلّق الخلق بالحقيقة المحمّدية , فلو ولد صلى الله عليه وسلّم في يوم الإثنين نهارا لزاحمت حقائقه الأحمدية حقائق الالوهية ولعبد في الأرض كما وقع الشأن في عيسى عليه السلام ولذاك توفّي فيه لتعلم الحقائق وأنّه العبد الكامل فلو توفي في يوم الجمعة لإختلّ العلم وهذا محال فكي تصان الحقائق كان الترتيب محكما لقوله تعالى (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً )