الناظر النقشبندى إدارى المنتدى
الساعه : الدوله : عدد المساهمات : 3363 مزاجك : تاريخ التسجيل : 24/01/2011 العمر : 55 الموقع : الطريقه النقشبنديه العمل/الترفيه : القراءه والأطلاع الصوفى
| موضوع: [color=blue]المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني النقشبندي [/color] الأربعاء فبراير 09, 2011 8:18 am | |
| [color=blue]محدث الديار الشامية المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني النقشبنديولادته ونسبه بقلم الشيخ محمود الرنكوسي
ولد الشيخ الأكبر بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى في دمشق سنة 1267ه وكانت ولادته في داره الملاصقة لدار الحديث الأشرفية التي كانت مقره ومقر أئمة الحديث الشريف , وولادته هذه من أبوين فاضلين تقيين ورعين . فوالدته السيدة عائشة بنت المرحوم ابراهيم الشهير بالكزبري هي من أعرق عوائل دمشق بالعلم والفضل والحسب والنسب خصوصا علم الحديث الشريف الذي انتهت رآسته اليها , وهي عائلة آل الكزبري الأماجد وقد اعتنت رحمها الله بولدها المترجم وسلمته الى شيوخ العصر ومن اعتنائها به أنها كانت لاترضعه الا وهي على طهارة كاملة وكانت في شهر رمضان لاترضعه نهارا . وقد رأت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع تمرة في فيه فاستيقظت من منامها والتمرة في فمه يمضغها . ووالده هو العلامة الكبير والشاعر النبيل والامام الشهير الشيخ يوسف بن العلامة الشيخ بدر الدين المراكشي السبتي الحسني المالكي مذهبا الدمشقي وفاة ينتهي نسبه الى الولي الكبير الشيخ عبد العزيز التباع استاذ الولي الكبير الشيخ الجزولي , والشيخ عبد العزيز المذكور ينتهي نسبه الى سيدنا الحسن السبط رضي الله عنه , والشيخ يوسف المذكور والد المترجم هاجر من مراكش الى مصر ودخل الجامع الأزهر وأخذ عن العلامة الشيخ حسن العطار والعلامة الصاوي والفضالي والأمير الصغير والشيخ فتح الله وغيرهم من مشايخ العصر . ومن رفاقه في طلب العلم العلامة الأشموني والباجوري وغيرهما وأجيز من الشيخ المحدث الكبير عبد الرحمن الكزبري الدمشقي وله ما ينوف عن ماية مؤلف في سائر الفنون خصوصا الأدب . توفي يوم الخميس الواقع في 19 جمادي الآخرة سنة 1279ه في دمشق وقد دفن في تربة باب الصغير جوار قبور آل البيت الكرام وقبره مشهور يزار وله من الأولاد اثنان أحدهما الشيخ أحمد بهاء الدين وهو الأصغر وكان من أهل العلم والفضل ومن مشايخ الطريقة النقشية وثانيهما الشيخ الأكبر محمد بدر الدين المترجم
بدء الشيخ بدر الدين في طلب العلم وتحصيله نشأ في حجر والده وقد أتم حفظ القرآن الكريم وتعلم الكتابة وهو ابن سبع سنين ثم اخذ في مبادىء العلوم , ولما توفي والده كان له من العمر اثنتا عشرة سنة فجلس في غرفة والده في دار الحديث الأشرفية يطالع الكتب ويحفظ المتون بأنواع الفنون وقد حفظ عشرين ألف بيت من متون العلم المختلفة وكان رحمه الله تعالى يحفظ غيبا صحيحي البخاري ومسلم بأسانيدهما وموطأ مالك ومسند أحمد وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه وكان يحفظ أسماء رجال الحديث وماقيل فيهم من جرح وتعديل ويحفظ سني وفاتهم ويجيبك عما شئت منها ومؤلفاته تنوف الأربعين ولم يجاوز العشرين من عمره وله الباع الطويل والقدم الراسخة في كافة العلوم حتى الرياضيات العالية والحكمة والفلسفة والطب والهيئة والجغرافية والهندسة وكان اذا ذكر حديثا جلس ساعة يتكلم في شرحه وما يستنبط منه حتى يقول الحاضرون لم يبق شيء يستنبط من هذا الحديث , ثم يقول الشيخ : ويؤخذ من هذا الحديث كذا وكذا ويؤخذ منه كذا وكذا الخ
وفي يوم الجمعة يجلس بعد صلاتها الى صلاة العصر في شرح حديث واحد في جامع بني أمية وكان رحمه الله يقرىء الطلاب في الجامع الأموي النحو والصرف والبلاغة والمنطق والفقه وغيرها وكان يقرىء تفسير البيضاوي عن ظهر قلبه بدون أن يحمل كراسة , ولما أحس أنه قد ألم بنفوس العلماء بعض القلق حيث أقبل الناس على درسه اعتزل في غرفته في مدرسة دار الحديث الأشرفية ولم يخرج منها مدة عشر سنين وكان يصلي الجمعة في حجرته الملاصقة للمسجد من جهة الشرق وكان في حجرته نافذة الى بيته يذهب ويأتي منها وفي مدة اعتزاله أكب على المطالعة والحفظ وأقبل بكليته على علم الحديث حتى صار فيه الحجة البالغة والمرجع الأوحد للعام والخاص , ولما جاوز الثلاثين من عمره شرع في الدرس العام في جامع السادات بدلا من درسه السابق في مسجد بني أمية ارضاء للمدرسين فيه فقرأ درسا عاما عن ظهر قلبه من صحيح البخاري وقد أعجبت الناس فصاحته وتكلم على الحديث الواحد من علوم شتى لم تعرف بديار الشام كالحكمة والطب والرياضيات وغيرهما فلما كثر الخلق عليه وضاق بهم الجامع انتقل الى جامع سنان باشا فكان يقرأ ليلة الجمعة والأثنين من المغرب الى العشاء فلما ضاق المسجد بالناس انتقل الى الجامع الأموي وابتدأ فيه درسه الأول بالحديث الأول من صحيح البخاري فأجاد وأفاد حتى أخذ بمجامع قلوب السامعين من ولاة وحكام وعلماء وخطباء وأدباء وحكماء وعامة الناس وذلك في سنة 1292ه فما رأى الناس مثل هذا الدرس ، وقد ذكر سند الحديث العالي و مشايخه وأتى على مقدمة قيمة في علم الحديث ولم يترك علما من العلوم المعقولة والمنقولة الا وذكر شيئا منها ثم ختم الدرس بالدعاء باصلاح الأمة والتوفيق لولاة الأمور وذلك بنظم سلس من انشائه وارتجاله ثم داوم بعد ذلك على هذا الدرس في كل يوم جمعة من بعد صلاتها الى أذان العصر فيقرأ حديثا من صحيح البخاري بسنده المتصل ويبين مابني عليه من الأحكام الشرعية على اختلاف مذاهب المجتهدين مع مأخذهم وأدلتهم ويرجح الأقوى منها ويأتي بما يناسب المقام من سائر العلوم وقد تبلغ الأحاديث التي يذكرها استشهادا لحديث الباب منه مأة حديث ويذكر تلك الأحاديث بأسانيدها المتصلة ويقرر المسألة الواحدة على المذاهب الأربعة مع أدلتها ويطبق عليها علم الأصول وآداب البحث والبلاغة والتفسير والتوحيد والآلات كلها حتى الحكمة والفلسفة والطب والهيئة والهندسة . وكثيرا ما يحضر درسه من لهم اختصاص بالطب والرياضيات فيذعنون للأستاذ بأنه صاحب اليد العليا في هذه الفنون ويقولون أفنينا العمر وما وصلنا الى ما وصل اليه الأستاذ , وكثيرا ما يحضر درسه الحكام والقضاة وغيرهم فيجلسون الى جانبه والناس حوله والواقفون أكثر من الجالسين وصوت الأستاذ يبلغ الجميع يهدر هدير الحمام وهو لايتوقف ولايتلعثم في حديث أو تمثيل أو عبارة مع حسن الالقاء وكلما أطال الدرس أجاد , وينتقل من البحث الذي هو فيه الى بحث آخر بأدنى مناسبة ويلتفت الى الحاضرين بوجهه وهم طبقات شتى يذكر الأحاديث المخوفة ويشدد الأمر عليهم خصوصا ولاة الأمور حتى يبكيهم , ثم يعود بالمناسبة ويذكر الأحاديث الدالة على الرجاء وثواب من يتولى أمور الخلق فيعدل بينهم ويقوم بالحق ويؤدي الأمانات الى أهلها , وهكذا شأنه رحمه الله تعالى الترغيب والترهيب شأن الأطباء الذين يجسون النبض ويضعون العلاج بحيث لايمل السامع من حديثه ووعظه مهما طال ثم يختم درسه بالحديث المبدوء به مع انسجام غريب يحير الألباب وقد يذكر حديثا من المسلسلات باسناده ورجاله وربما تزيد عن الثلاثين ولو كتب درسه الواحد بالحرف لبلغ جزءا لطيفا بلا شك ولا ريب , وكان أكثر طلابه ومستمعيه يكتب بسرعة الأحاديث التي يذكرها بالمناسبات واذا فاتهم شيء من ذلك يتمونها منه خارج الدرس . ومع هذه السرعة يفهم الحاضرون كلامه حتى العامة منهم وينقلون كلامه الى البيوت والى الشوارع وما ذلك الا بسبب اخلاص المربي الكبير . وهكذا نشر علمه بين الناس فبمثل هذا فليعمل العاملون
استقامته وعادته كان رحمه الله على طريقة السلف الصالح من اظهار الدين الحنيف بمظهره الحقيقي بعيدا عن الدخيل الذي ليس من الدين في شيء , فانه بعد أن يصلي الصبح في الجامع الأموي بغلس يقرأ بعض أوراده ثم يذهب الى غرفته في دار الحديث وحوله جماعة ممن ولعوا به , فاذا وصل الى الباب المدرسة أقبل عليهم بوجهه المنير وطلب منهم الدعاء ثم سلم ودخل غرفته , وهناك يتم بقية أوراده ثم يصلي صلاة الضحى التي لم يتركها حتى في سفره وحتى يوم وفاته ( وقد أسلم روحه الشريفة بعد صلاة الضحى بنحو ساعة ) وبعدها أغفى اغفاءة ثم يبتدىء الدروس التي تمتد الى ما بعد الضحوة الكبرى فاذا قرب الظهر توضأ واستقبل القبلة ودعا وصلى ماشاء الله أن يصلي فاذا أذن الظهر صلاها بجماعة وأقبل بعد قراءة أوراده على الدروس فاذا قرب العصر تهيأ لها ثم بعد أن يصليها مع الجماعة يعود الى الدروس وربما قرأ درسين أو أكثر ثم يتوجه الى داره فاذا صلى المغرب جماعة أفطر ثم جلس للدرس في بيته وهذا الدرس يحضره بعض الطلبة وكثير من العامة ويؤخر صلاة العشاء لأجله فاذا صلاها مع الجماعة ذهب فورا الى مضجعه من غير أن يكلم بعدها أحدا فينام وهو ذاكر لله تعالى ثم يقوم للتهجد حتى يقرب الفجر فيأتي الجامع الأموي فيصلي فيه الفجر بغلس وهكذا دواليك – أي عادته – لايخالف هذا السير ولايتركه فأوقاته بل حياته دائرة بين ذكر وصلاة ودعاء ومناجاة وصيام وقيام ودروس خاصة وعامة وشفاعة لدى حاكم ونصيحة له وسؤال عن أحوال الناس وعن أسعار أقواتهم ومواضع شكاتهم وترحيب بزائر وطلب الدعاء منه وزيارة المساجين والقبور وصلة الأرحام وعيادة المرضى وجمع الناس على الله تعالى , وكان يرغب كثيرا في زيارة الطاعنين في السن وان نأت بهم الدار وبعد بهم المزار طالبا الدعاء منهم . وقد أجمع من يعتد باجماعه على أنه بدر الدين وشمس الزمان والنبراس الذي كان يضيء لجميع الأنام , فأخلاقه وأحواله مطابقة للأخلاق المحمدية
ورعه وتواضعه وعبادته كان رحمه الله تعالى ورعا متواضعا كريم النفس حسن الأخلاق سهل المقابلة لين الجانب .من ورعه عدم الفتيا بل يحيلها على أحد العلماء في مدرسته أو على المفتي العام واذا ثمة مسألة مشكلة ولم يفد أحد عنها من أهل العلم أمر أحد طلابه أن يكتب جوابها وهو يملي على الكاتب عن ظهر قلب مع استيفاء أدلتها وقد يحيل بعض ما في المسئلة الى محالها فيقول هي في كتاب كذا في صفحة كذا . ومن ورعه لايؤم في صلاة ولايخوض في أمور الدنيا ولايستمع الى غيبة أحد ولايمكن أحدا يخوض في كلام مباح بمجلسه فضلا عن غيره , واذا تكلم أحد في أمور الدنيا أسكته مهما كانت منزلته . ومن ورعه أنه اذا كان في المسجد لايكلم أحدا فيه . ومن ورعه واجتهاده في العبادة أنه كان يبالغ في الوضوء في الشتاء أكثر منه في الصيف لئلا تميل نفسه الى الارتياح ولذا كان لايمسح على خفيه أبدا . أما تواضعه فعجيب فقد كان يتوجه لزيارة أهل الصلاح والتقوى والفقراء ويزور مدارس الأولاد الصغار ويدخل عليهم ويطلب الدعاء منهم ومن معلميهم ويمسح رؤوس الأيتام منهم ويأتي السجون فيسلم عليهم وينصحهم ويتلطف معهم ويطلب دعاءهم ويأمر المظلومين منهم بالصبر فيزول مابهم من الشدة . ومن ورعه أنه لم يدخل في عمره دواوين الحكومة ولاقصورها واذا دعت الحاجة لذلك لم يتجاوز الباب الى داخله . ومن ورعه أنه كان يكره أن يقرأ التلميذ أمامه عبارة رد بعض العلماء على غيرهم بما يفهم التنقيص كقولهم ذكر فلان كذا وقد أخطأ بل يقول انظر اليها ولاتقرأها
كان رحمه الله تعالى صمته فكرا , ونطقه ذكرا , وقوله عبرة وحكمة , صائم النهار قائم الليل كثير التنفل لايفتر لسانه عن ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , متمسكا بكافة السنن المحمدية مصليا أوقاته كلها مع الجماعة مكثرا لتلاوة كتاب الله تعالى مصليا جميع نوافله قائما حتى مرضه وكنت أقوم من وراءه حالة تنفله قائما في مرضه مخافة السقوط , وكان لايرفع لقمة الى فيه الا قال بسم الله ولاأساغها الا قال الحمد الله . وكان عظيم الاعتناء بالمواظبة على جميع الرواتب – أي : السنن – القبلية والبعدية والوتر والضحى وصلاة التسابيح والأوابين وقيام الليل ونحوها من سائر النوافل يصليها كلها قائما الى أواخر حياته , ومازال على هذا الصراط السوي الى آخر ساعة من حياته فصلى قبيل وفاته الفجر والضحى ثم سلم روحه الطاهرة الى ربه العظيم
رحلاته رحلته الى المدينة المنورة :وفي سنة 1333ه دخل المدينة المنورة قبيل صلاة الجمعة فسبقته شهرته الى المسجد النبوي الشريف فهرع الجميع اليه وتزاحم الناس عليه يطلبون لثم يديه والتبرك به فلم يكلم أحدا منهم حتى خرج من المسجد , وقد استجازه وقتئذ علماء المدينة المنورة وأخذوا عنه , ثم رحل الى مكة فتقدمت شهرته اليها واستقبله شريف مكة الأمير حسين استقبالا عظيما وخرج لاستقباله أولاده الأربعة علي وعبد الله وفيصل وزيد على بعد فرسخين وأخبروه بأن والدهم قد أعد له جناحا من قصره فاعتذر . وقد خف لزيارته خلق كثير يطلبون منه الدعاء والتبرك به لما يسمعون من عظيم أمره ومزيد شهرته وقد استجازه علماء مكة وطائفة عظيمة من علماء الهند وغيرهم , وله رحلة أولى قبلها الى بلاد الحجاز
رحلته الى مصر : قدم الى القاهرة واجتمع بالعلماء والأدباء وأخذ عنه بعض علمائها , كما اجتمع برفيق والده الشيخ الأشموني , ورحل الى القدس الشريف وأخذ عنه علماؤها , وله كثير من الرحلات الى البلدان العربية والسورية وغيرها , وعند رجوعه من كل رحلة كان يجد أمامه استقبالا عظيما لا كاستقبال الملوك . وقد دعاه المغفور له السلطان عبد الحميد الى الأستانة فاعتذر , كما دعاه قيصر روسيا سنة 1313 الى روسيا وأعد له باخرة حربية ترسل الى ميناء بيروت لتقله الى روسيا فاعتذر أيضا
وفاته رضي الله عنه توفي رحمه الله تعالى صباح الجمعة في 27 من شهر ربيع الأول سنة 1354ه الموافق شهر حزيران سنة 1935 , ولما نزل الخطب المدلهم وثلم الدين بوفاة المحدث الأكبر توافد الناس على داره ودار نجله فخامة الرئيس تاج الدين يشاطرونه وأهله الأسى والأسف فكان يستقبلهم أحفاد الفقيد . وقد أشرف على تنظيم موكب الفقيد الغالي صاحبا المعالي وزيرا العدلية والأشغال وعطوفة رئيس بلدية دمشق والشيخ عبد القادر العاني وآل الفقيد وتلامذته . وقد أعلن المؤذنون وفاته بجميع المآذن فارتاعت المدينة ارتياعا عجيبا وحملت أسلاك البرق والهاتف النبأ المفجع الى البلاد السورية فتوافدت الوفود وكان في مقدمتها وفد بيروت برئاسة سماحة الشيخ محمد توفيق الخالد مفتي الجمهورية اللبنانية , ووفد حلب برئاسة دولة والي حلب , ثم باقي الوفود . وفي الساعة الثانية والنصف تماما تحرك موكب النعش من دار الفقيد يتقدمه طلاب العلم والشباب والجنود وثلة من العلماء , وجميع رجال الكتلة الوطنية وشبابها ومشى وراء النعش آل الفقيد وفخامة رئيس الجمهورية وأصحاب المعالي الوزراء والمندوب الأفرنسي وعطوفة رئيس البلدية والمستشارون وقائد الدرك العام وضباط الدرك من سوريين وأفرنسيين وموظفو الحكومتين والوجهاء والأعيان والعلماء والشباب وثلة من الجند والشرطة , وتابع الموكب سيره من حارة الحلبوني الى شارع جمال باشا فسوق الحميدية فباب البريد فجامع بني أمية حيث صلِّ عليه هناك مرات عديدة لعدم تمكن الناس من الصلاة عليه دفعة واحدة , ثم نقل النعش من سوق الحميدية فشارع الدرويشية فباب الجابية فباب الصغير , وكانت الطرق تعج بالناس وعدد المشيعين ينوف على مائة وخمسين ألف نسمة . ثم وصل الى مقره الأخير بعد أن رثاه كثير من العلماء والأدباء , وقبره مشهور يزار وقد شيد عليه مسجد ضخم ودفن الى جانبه زوجته وولده فخامة رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين , وقد استغرق الموكب المشيع لجثمان الفقيد من المسجد الى مقره الأخير خمس ساعات مع أن المسافة بينهما لاتتجاوز ثلث الساعة
مشايخه رضي الله عنه وهم والده الشيخ يوسف المتوفى سنة 1279ه , والشيخ عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم الخطيب الدمشقي المتوفى سنة 1288ه , والشيخ أبو الخير الخطيب بن الشيخ عبد القادر الخطيب المتقدم المتوفى سنة 1311ه , والشيخ البرهان بن حسن السقا المصري , ومحدث مصر الشيخ حسن بن علي العدوي , والشهاب أحمد بن عبد الرحيم الطهطاوي , والبرهان الباجوري وغيرهم
من تلاميذه أما تلاميذه فيتعذر على الانسان احصاء مشاهيرهم فضلا عن جميعهم : من أشهرهم العلامة الكبير الشيخ عبد القادر القصاب , والعلامة الجليل الشيخ طاهر الأتاسي , مفتي حمص , والعلامة الكبير الشيخ محمد المبارك , والعلامة الكبير الشيخ توفيق الأيوبي , ومسند حلب الشيخ محمد كامل الهبراوي الحلبي المتوفى سنة 1346ه , والشيخ محمد رضا الزعيم الدمشقي شهيد ترعة السويس عام 1334ه , والمؤرخ الكبير الشيخ محمد راغب الطباخ , ومؤرخ مكة الشيخ عبد الستار الهندي المكي , والشيخ محمد بن سالم المنوفي المصري المالكي الأزهري , والشيخ نجم الدين بن عبد الله البغدادي , والسيد محمد درويش الآلوسي البغدادي , والسيد ابراهيم الراوي البغدادي , والمعمر أبو الخير علي بن محمد عواد السلاوي المغربي , ومفخرة البلاد أبو عبد الله محمد بن جعفر الكتاني الكبير اجيز من الشيخ عام الف وثلاثمائة وواحد وعشرين ه , كما أجيز من الشيخ العلامة الكبير الشيخ عبد الحكيم الأفغاني , والشيخ عبد القادر الطرابلس الشلبي المدني , وأديب فاس القاضي أبو العباس أحمد بن المأمون العلوي البلغيثي الفاسي , والشيخ مصطفى الشطي مفتي دوما , والشيخ محمد أبو المواهب الريحاوي , والشيخ عبد القادر المغربي , والشيخ جمال الدين القاسمي , والشيخ عبد القادر بدران , والشيخ عارف المحملجي , والشيخ سليم الكزبري , والشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت , والشيخ حسن مدور أمين فتوى بيروت , والشيخ عبد الرزاق الأسطوانى , والشيخ محمد الكستي قاضي بيروت , والشيخ ميرز الأفغاني , والشيخ أحمد أمير خان , والشيخ علي الدقر , والشيخ هاشم الخطيب , والشيخ محمود العطار , والشيخ وسيم أفندي الجندي , والشيخ محمود الياسين , واالشيخ أمين سويد , والشيخ تاج الدين نجل الأستاذ , والشيخ قاسم حرز الله النابلسي , والشيخ بهجت البيطار , والشيخ يحيى المكتبي , والدكتور الشيخ محمد رفيق السباعي , والشيخ فخر الدين الحسني حفيد الشيخ , ومؤلف هذه الرسالة الشيخ محمود الرنكوسي , والشيخ عبد الرزاق الحمصي , والشيخ حسن حبنكي الميداني , والشيخ طه المكتبي , والشيخ أحمد التلمساني , والشيخ أحمد العربيني , والشيخ سعيد الهرباوي , والشيخ مكي الكتاني
من كراماته كان يقول كثيرا : ياحسرة على المسلمين من بعدنا , ولو لم يكن الشيخ أهلا لدفع البلاء عن الناس لما قال هذه الجملة .
كنت أسأله عن المسألة من الكتاب الذي ندرس فيه : فيقول اسأل المصنف فأقول انه متوفى منذ زمن طويل كيف أسأله فيقول ألا تراه الى جانبكوكان يقول لنا كثيرا : أتسمعون رد النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد حينما تقولون : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فأقول وهل أحد يسمع ذلك فيجيب هناك أناس لو غاب عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة لماتوا .ومنها كنت مع آخرين نقرأ شرح الرضي على الكافية في النحو : فقال لي بعض الأساتذة قل للشيخ هذا الكتاب طويل ولايخلص فليبدله لنا بغيره أخصر وانما قال لي قل للشيخ لأنني كنت أصغرهم سنا ولي دالة عليه , فقلت له يامولانا هذا الكتاب نموت ولاينتهي لو بدلته لنا بغيره , فقال : من قال لك هذا , فقلت فلانا فأجاب بقوله : (( أنا آخر من يقرىء هذا الكتاب في الدنيا وأنت يامحمود آخر من يتمه علي )) وقد صدق الشيخ في كلامه فأنا الوحيد الذي أتممت قراءة هذا الكتاب على الشيخ في مدة أربع سنوات .ومنها لما أتى بي والدي الى دار الحديث وقدمني الى الشيخ , قال بعد السلام أتيت بولدي محمود هل تعرفه فأجابه الشيخ بقوله : أعرفه وهو في صلب جده . وهذا شأن الكمل من المرشدين والمربين يربون تلامذتهم وهم في أصلاب أجدادهم .دعي ذات يوم الى بستان من قبل رجل من أهل الميدان لاأذكر الآن اسمه , قد اشتراه حديثا وقد دعاه من أجل التبرك به , وكان ذلك قبيل وفاة الشيخ بشهور , فاعتذر الشيخ بسبب مرضه فبكى الرجل , فلما رآه يبكي أجابه , ثم قال له يوجد هناك ابريق ومحل للوضوء وغيره فقال الرجل نعم , فقال الشيخ لي قبل الخروج من باب البيت اكتب الحديث التالي : عن علي رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من اتقى الله عاش قويا وسار في بلاد الله آمنا )) . واكتب (( عن علي رضي الله تعالى عنه : من اتقى الله أهاب الله منه كل شيء , ومن لم يتق الله أهابه الله من كل شيء )) . وخرج الشيخ من الباب الى السيارة وقال للرجل غط السيارة حتى لايرانا أحد وخذنا عن طريق المزة بدل طريق الميدان . فقلت في نفسي : لابد أن يحدث لنا شيء بعد كتابة الحديثين .
فلما وصلنا البستان ودخلناه رأيت كلبين كبيرين للحراسة فلم يمكث الشيخ الا قليلا فطلب من الرجل احضار ابريق , فذهب لاحضاره فتأخر لبعد المكان ولما كان الشيخ مضطرا فنظرت فاذا بابريق مكسور العروة فأخذته وملأته ماء وذهبت مع الشيخ , فلما قضى حاجته وخرج أشار الي أن أمشي أمامه – وهذه عادته معي – فلما مشيت أمام الشيخ ورآنا الكلبان هجما علينا وليس في الأرض حجر ولا عصا فتسمرت رجلاي في الأرض وانقطع صوتي لخوفي على الشيخ فجاوزني الشيخ ثم رفع رأسه وقال أما يكفي هذا العواء ؟ فرجعا خاضعين ذليلين ولم أسمع لهما صوتا بعد ذلك حتى رجعنا فنظرت الى الشيخ فقلت له يامولانا ماهذا ؟ فقا لي وعيناه تذرفان ألم تكتب الحديث قبل الخروج من البيتومنها أنه رضي الله تعالى عنه كان يلبس سروالا أبيض فقال لي احذر كم سنة وأنا ألبس هذا السروال فقلت له : خمس فقال برأسه لا , فقلت عشر فأشار برأسه لا , فقلت عشرون فأشار برأسه لا , ثم قال صار له حمس وخمسون سنة , فقلت له أكان مخبوءا فقال لا انما هو غسل ولبس , فقلت : فكيف هذا فقال ألا تسمع مايقال : (( ثياب )) وسكت أي : ثياب الصالحين لاتبلى . ولقد قرأت على الشيخ ولازمته وهو لابسه ثمان سنوات أخر فوق الخمس والخمسين والسروال لايزال على حاله .ومنها أنه سألني عن مكان في أرض رنكوس فيه مقام لسيد التابعين أويس القرني فقلت له نعم يوجد له مقام فشرع الشيخ في وصف ذلك المكان وكأنه هو المنشىء لذلك المكان والقائم عليه وانه لأعرف به مني وممن يعيشون في رنكوس , ومن هذا النوع ماحدثني به مفتي يبرود الشيخ يوسف حيدر رحمه الله حين زيارتي له في يبرود في رحلة لي الى جبل القلمون استغرقت خمسة عشر يوما فزرت فيها أهل العلم .
ومما حدثني به الشيخ يوسف أنه قال أرسل الي الشيخ بدر الدين بأن أحضر الى دمشق الى مدرسة دار الحديث النبوي الشريف التي هي مقر الشيخ فحضرت واذا بالمدرسة جميع مفاتي سوريا فجعل يسأل بعضنا بعضا أتدري لماذا طلبنا الشيخ فيقول كل للآخر لاأدري . ثم دعا الشيخ كل مفت منا الى غرفته على انفراد , ولما دعاني قال لي ياشيخ يوسف كم عدد الأفرنسيين في جبل القلمون عندكم فقلت له لايتجاوزون المائة , فقال كم عدد نفوس الجبل عندكم فقلت له كثير يتجاوزون المائة ألف , فقال الشيخ : هذا العدد الكثير ألا يستطيع قتل الافرنسيين المائة الذين عندكم ؟ ثم قال لي أي مكان عندكم يصلح لقيام الثوار فيه فجعلت أذكر له بعض الأمكنة والشيخ لايرضى بها ويقول لي لاتصلح ثم شرع الشيخ يصف لي جبلا هناك , وقال بأنه يصلح لهذا الغرض , وكأن الشيخ قد عاش في ذلك المكان ويعرفه أكثر مني ومن أهل يبرود . وهكذا تكلم مع كل مفت وحثهم على الثورة على الافرنسيين بعد رحلة قام بها الى البلاد السورية وعندها نشأت الثورة وكان الداعي والمؤجج لها هو المرحوم الشيخ المحدث الأكبر مولانا بدر الدين .ومنها ماحدثني به الشيخ محمود الأشقر قال : كسرت يدي فجبرتها , وبعد مدة آلمتني كثيرا ثم لما فك الجبار قال لي الأطباء أنه حصل لها ( غرغرينة ) لابد من قطعها وعينوا لي يوما لبترها فأتيت الى الشيخ بدر الدين وذكرت له ذلك الأمر , وطلبت من الشيخ الدعاء وأن يرقيني فتبسم الشيخ وبشرني بأنها تبرأ بدون قطع ثم وضع يده المباركة على يدي وجعل يرقيني مقدار ثلث ساعة من الزمن فذهبت بعد ذلك الى بيتي وقمت في الصباح فلم أجد وجعا ولا ألما في يدي ورجعت سالمة كأن لم يكن بها كسر ولاغرغرينة . فجئت الى دار الحديث وقابلت الشيخ وجعلت أقبل نعلي الشيخ وأرقص فرحا بشفائي , والشيخ رحمه يقول لي (( الله يصلحك )) ويبكي وذلك في حضور الشيخ هاشم الخطيب والشيخ علي الدقر رحمهما الله تعالى .ومنها عن الشيخ محمود الأشقر أيضا قال كنت في طريقي الى محل عملي في سوق الخياطين فخطر على بالي أي الشيخين أكبر علما وولاية , هل الشيخ بدر الدين أم الشيخ عبد الحكيم الأفغاني وكانا في مدرسة دار الحديث في غرفتين متقابلتين الشيخ بدر الدين في الغرفة الشرقية والشيخ عبد الحكيم في الغرفة الغربية فحولت طريقي الى المدرسة فلما دخلتها واذا بالشيخين كل أمام غرفته يشير كل الى الآخر بأنه هو .ومنها كما أخبرني فضيلة الشيخ سعيد الهرباوي وزميلي في الطلب عند الشيخ رحمه الله قال : كان الشيخ يقول لنا ونحن عنده في الدرس (( في ناس يذهبون ويطوفون بالبيت , وفي ناس يذهبون الى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم , أما تذهبون أنتم شدوا حالكم واذهبوا .
فلو لم يكن الشيخ رحمة الله عليه من أهل هذا المقام لما ذكر لنا ذلك وقد شاركت الشيخ سعيد في سماع ذلك أيضا .ومنها أن الحاضرين لدرسه كان كل شخص منهم يحمل في جعبته سؤالا أو أكثر ليسأل عنه الشيخ رحمه الله فيذكر الشيخ من غير سؤال اجوبة الأسئلة فيقوم كل شخص وجوابه معه وهذه الكرامة لاتكون الا للوارث المحمدي أو لآحد الأنبياء وكان الشيخ رحمه الله وارثا محمديا .ومنها ماحدثني بها أحد علماء الداغسطان ولم أتذكر الآن اسمه بعد أن دعاني الى بيته ثم أخرج لي ثلاث صور الأولى لمولانا الشيخ محمد بدر الدين وقال هل تعرف هذا فقلت له نعم أعرفه . والثانية لمولانا الشيخ أمين سويد وسأل هل تعرف هذا فقلت له نعم أعرفه .
والثالثة لرجل من أهل الولاية من بلاد الداغسطان وسأل هل تعرف هذا فقلت له رأيته مرة فقال لي أريد أن أحدثك عن هؤلاء الثلاثة مع العلم بأنه لايعرف أنني من تلامذة مولانا الشيخ بدر الدين فقال يحدثني أولا عن العلامة الشيخ أمين سويدقال أنا كنت مدير مدرسة بالداغسطان وكان الشيخ أمين سويد ممن يساعدني على نفقة الطلاب في المدرسة وكان يزورنا في كل عام على الأغلب ومن مساعداته مأة ليرة ذهبا . وخمسون كيسا من الدقيق وكمية كبيرة من الزيت . وفي العام الذي لايجيء فيه يرسل لنا مع شخص كمية الذهب ويشتري لنا الدقيق والزيت ففي احدى المرات زار المدرسة وتفقد الطلاب ثم أوصاني بهذا الولي الداغسطاني وكانت له غرفة في المدرسة وقال الشيخ أمين عنه مارأيت أحدا له كشف مثل كشفه فأحببته كثيرا وصرت أخدمه بنفسي فدخلت عليه يوما من الأيام فوجدته يبكي وظننت أن أحدا من الطلاب تعدى عليه فسألته عن بكائه وكان صباح جمعة فقال لي في هذه الساعة توفي الشيخ بدر الدين , ثم قال لي اجلس حتى احدثك عن الشيخ بدر الدين فجلست الى جانبه فأنشأ يقول خرجت الى الحج عن طريق البر مع جماعة كثيرة وكان الشيخ بدر الدين خارجا الى الحج أيضا في ذلك العام وما اجتمعت به وما رأيته قبل ذلك أبدا . ولما اجتمعت القافلتان ونزل الحجيج للراحة واذا بالشيخ قد أرسل رسولا يدعوني اليه فلما حضرت أشار الشيخ بيده فخرج كل من كان في تلك الخيمة .
فنظر الي الشيخ وقال ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكلني بالنفقة على اثني عشر ألفا من أولاد الحسين وأعطاني الله تعالى قوة الطيران أطير ليلا وأنفق عليهم , وجميع الأولياء تأتيني بالنفقات الا أنت وهذا من قصور كشفك ثم سكت فوالله ماحدثت بذلك أحدا الا الساعة ولم تصلنا الأخبار بوفاة الشيخ الا بعد أيام كثيرة .
وأخيرا : فان أعظم الكرامات وأجلها الاستقامة على الشريعة ولو لم يكن للشيخ شيء من الكرامات الا كرامة استقامته على الشريعة وحفظ مجالسه حتى من لغو الكلام لكفاه . وفي الحقيقة كل حياة الشيخ كرامات وما ذكرته لك ياأخي الا غيض من فيض
من تراجم العلماء لفضيلته لقد أطنب الكثير من العلماء والأدباء والكتاب في العالم الاسلامي في تراجمهم عن حياة مولانا المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني .
منهم : العالم العامل والمرشد الكامل الشيخ محمد عبد الجواد القاياني المصري – وكان الشيخ القاياني والشيخ محمد عبده ممن نفي مع كثير من علماء مصر الى سوريا ولبنان أثناء حركة عرابي باشا الشهيرة عام (( 1300ه )) , فصاروا يترددون بين بيروت ودمشق , وكانوا في دمشق نزيلين دار محمد سعيد أفندي الكيلاني , وكان ممن حضر للسلام عليهم مولانا الشيخ بدر الدين عليه الرحمة والرضوان
قال المؤلف القاياني في كتابه نفحة البشام في رحلة الشام
الشيخ بدر الدين بن الشيخ يوسف المغربي مدرس السنانية هو من نوادر هذا الزمان فانه شاب صغير السن لم يشتغل كثيرا على المشايخ في الدرس الا أنه لجودة حافظته اشتغل بنفسه وانقطع للمطالعة أناء الليل وأطراف النهار فصار من أهل العلم والاعتبار يقرأ الكتب العظيمة الكبار ويلقي على الطلبة جميع الدروس تعليقا بدون نظر في كراسة أو كتاب وحضرناه ليلة وهو يقرأ شرح البخاري فمكث أكثر من ساعة يقرر في المسائل ويشرح الحديث عن ظهر قلب , وقد زارنا في منزل السيد سعيد أفندي الكيلاني فرددنا عليه الزيارة في مدرسته الملازم لها وهي مدرسة دار الحديث التي كان يقرأ فيها الامام النووي رضي الله عنه وكانت تخربت واستولى عليها رجل نصراني , فانتزعها منه الأمير عبد القادر وأصلحها بواسطة الحكومة والشهامة النبوية وصارت على ماهي عليه عامرة بالعلم والعمل وطلع فيها بدر الدين وحل بعد أن كان أفل منها وارتحل , فالحمد لله على هذه النعمة بالحصول على آثار الأئمة والأخذ بثأر هذه الأمة . ولما قصد الامام السبكي زيارة الامام النووي بالشام وسافر من مصر فوجده قد انتقل الى رحمة الله تعالى فطلب أن يدلوه على محل مدرسته فأدخلوه الى دار الحديث فقال
وفي دار الحديث لطيف معنى * أصلي في جوانبها وآوي عساني أن أمسّ بحُرِّ وجهي * مكانا داسه قدم النواوي
ومنها : ترجمة الشيخ عبد الواسع اليماني له في كتابه الدر الفريد الجامع لمتفرقات الأسانيد قال : ومن مشايخي من علماء دمشق السيد العلامة المحدث علامة الدنيا بدر الدين الحسني بن الشيخ يوسف وهو من السلالة الطاهرة وهو مغربي , والشيخ يوسف من كبار العلماء المسندين الذين رحلوا الى الأقطار وله مائة شيخ وكلهم أجازوا له , ومن مشايخه من علماء مصر الشيخ الشرقاوي .
وكان المترجم له رحمه الله يحفظ الصحيحين غيبا مع رجالهما وتاريخهما ولايبعد حفظه لشروحهما من فتح الباري والعيني والنووي لما أنه اذا ذكر حديثا جلس ساعة يتكلم في شرح الحديث وما يستنبط منه حتى أقول في نفسي انه لم يبق شيء مما يستنبط من الحديث ثم يقول ويؤخذ من الحديث كذا وكذا ويؤخذ منه كذا وكذا الخ
وكان صائم الدهر لايفطر الا العيدين ولايتكلم بلغو الا بما لابد منه ولايفتر لسانه عن ذكر الله تعالى ولايسمح لآحد في مجلسه أن يتكلم بغيبة .
وقرأت عليه : نوادر الآصول للحكيم الترمذي , وعقائد النسفي في التوحيد , والسعد على العزي في الصرف , والفناري في المنطق مع حواشيه , والهداية في الحكمة والخلاصة في علم الحساب العاملي , وشرح تائية السلوك الى ملك الملوك في علم الزهد , وشرح منظومة ابن الهائم في علم الجبر والمقابلة , والنصف الثاني من الكشاف , والنصف الأول كنت قرأته بصنعاء لدى شيخنا القاضي العلامة الحسين بن علي العمري حفظه الله , وصحيح البخاري كاملا أمليته عليه وهو يسمع مع جملة من الطلبة في دار الحديث , وأمليت عليه مؤلفي المختصر في الترغيب والترهيب وما اليه , وأمرني بتجريد كثير من الأحاديث الضعيفة وطلب مني مطالعته معي في علم الفلك والهيئة , التصريح على التشريح طبع الهند , والجغميتي , وفي زيج بن الشاطر واللمعة شرح الزيج , وقد قرأت هذا الفن مع علماء أهل الكتاب ولم أذكره من جملة مشايخي والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث يجدها كما في الحديث الشريف .
وقد طلب مني أيضا شيخنا رحمة الله عليه مطالعته معي في مؤلفي المطبوع في الشام المسمى بكنز الثقات في علم الأوقات هذا مع علو همته وتحقيقه لجميع العلوم وكبر سنه وكان عمره حينئذ حول السبعين وذلك في سنة 1337ه , فلم يتكاسل عن أخذ بعض العلوم ممن هو أصغر منه سنا وقد أجازني اجازة عامة وخاصة برسالته المطبوعة في سنده لصحيح البخاري عن مشايخه الى المؤلف . ومن مشايخه شيخ الاسلام ابراهيم السقا المصري , وكان قرأ عليه في الأزهر الشريف بسنده الى الأمير الكبير صاحب الثبت المشهور . وأقول هو امام التحقيق والتدقيق وروح جسم العبادة وحليف التقوى والزهاده نهاره صائم وليله قائم , مؤثرا للعزلة عن الناس , تاركا لفضول العيش واللباس , لايحب الشهرة في شيء من أحواله , لايمضي عليه وقت بغير ذكر الله أو تدريس . فوجهه ساطع بالأنوار , وعليه من العبادة آثار , طول نهاره في مدرسة دار الحديث , وبعد صلاة المغرب يذهب الى بيته يقدم له صحن خضار وخبزه فيأكلها فهي فطوره وسحوره , ثم يحضر بعض الطلبة للدرس في بيته بين العشائين , وقبل الفجر يخرج من بيته الى المدرسة والمسافة خمس دقائق , ثم يصلي الفجر في المدرسة ويدخل مكانه للذكر المأثور وبعد طلوع الشمس تحضر الطلبة للدروس في فنون متعددة ولايفتر لسانه عن ذكر الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله ولو في حال الدرس بين السكتات اذا حصل سكوت لسبب .
( أول دخولي دمشق ) في سنة (1330ه ) كنت بعد الحج في المدينة المنورة مرافقا لأحد علماء الأتراك حسين كامل بك رئيس مجلس التدقيقات بصنعاء فسبقني الى دمشق باسبوع ثم وصلت دمشق في المحل الذي سكن فيه المسمى دار السرور وفي اليوم الثاني قال هل زرت الشيخ بدر الدين , قلت لا . فقال : هو أكبر عالم اليوم فقلت في نفسي عالم من العلماء . ثم قال : أنا أزوره كل يوم وأحضر درسه . ثم في اليوم الثاني سافرت الى القدس للزيارة , ثم ذهبت منها الى بيروت فاجتمعت بعلمائها فسألوني كيف رأيت الشيخ بدر الدين , فقلت : مارأيته ثم أفاضوا في الثناء عليه , ثم سافرت الى مصر وهي أول مرة دخلتها فمن سألني من العلماء ولم يعرف الشيخ بدر الدين يقول لي لمجيئك الآن من دمشق صف لنا الشيخ بدر الدين كيف علمه وزهده فأقول ماعرفته ولم أتمكن من زيارته فندمت لتقصيري في ذلك وكان يحصل لدي الخجل كلما كنت أسأل عنه . ثم أخبروني أن مفتي مصر وقتئذ العلامة الأكبر الشيخ محمد بخيت سافر الى الشام لقصد زيارته ومعرفة علمه فحضر درسه العام في يوم الجمعة فدهش من سعة علمه ثم قال لو كان عندنا في مصر لم تحمله العلماء الا فوق رؤوسهم . أقول : أما درسه العام فهو يدرس عقيب صلاة الجمعة والصلاة في أول وقتها وبينها وبين صلاة العصر ثلاث ساعات ويمكث دائما في حال الدرس ثلاث ساعات الى آذان العصر في الجامع الأموي ويحضر لسماع درسه من الناس ماينوف عن الألف ولايظن السامع الا أنه يملي من كتاب من دون توقف في حديث أو تمثيل أوعبارة مع حسن الالقاء , ولقد سمعت المدرسين والوعاظ في بلدان كثيرة فما رأيت مثله قط , ومحققا في جميع العلوم العقلية والنقلية الا الفلك والهيئة كما أخبرني أن نفسه لم تمل اليه في أيام الطلب ( نعم ) فان أكابر العلماء المصريين كالشيخ محمد بخيت والشيخ يوسف الدجوي , اذا تكلموا في موضوع في أي فن كان كأنه ينزف من بحر , ومن سمعهما يقول انه ليس لهما في الدنيا من نظير مع أن بينهما وبين الشيخ محمد بدر الدين بون بعيد , ثم لما علم الله بأسفي لدخولي دمشق ولم أزره وأحضر درسه , وفقني الله الى السفر في السنة الثانية بعد خروجي من مصر الى اليمن ثم رجوعي وكانت طريقي بعد الحج من الشام فوقعت الحرب العظمى وجلست في الشام خمس سنين في دار الحديث في جوار الشيخ ومكاني قريب من مكانه . وكان من ورعه لايفتي بل يحيل الفتوى على أحد العلماء في هذه المدرسة . واذا ثم مشكلة علمية ولم يفد فيها أحد من أهل المدرسة أمر أحدهم بكتب جوابها وهو يملي على الكاتب مع استيفاء أدلتها وقد يحيل بعض ما في المسألة الى محلها فيقول هي في كتاب كذا في صحيفة كذا , ومن ورعه لايؤم أحدا في الصلاة ولايكتب شيئا بخطه . ولدفع مظلمة صدرت من الحكومة على أحد الناس أوبأمر يضر بالرعية يأمر وكيله يكتب الى الحكومة برفع تلك المظلمة ويضع ختمه وعند اطلاع الحكومة على ختم الشيخ , تأمر حالا بانجاز ماأمر به .
وعند وصول أي رئيس دمشق ابان الحكومة العثمانية , أو الحكومة الحالية يصل حالا الى الشيخ للسلام عليه ويطلب الدعاء منه فيوصيه الشيخ بالعدل والنظر بمصالح الناس وازالة المظالم .
ومن عادة الشيخ أنه كان لايخوض في أمر الدنيا بل اذا ثم حادثه أو خبر عجيب أو عن أمور بيته يأتي وكيله الشيخ العلامة الشيخ المكتبي حفظه الله يكلمه بذلك , واذا ساءه ذلك الكلام أكثر من الحوقلة والاسترجاع . وأخلاق هذا الشيخ وكيله وسيرته ومعاملته للناس كمثل صفات مولانا الشيخ بدر الدين والسعي في قضاء حوائج الناس والضعفاء والمساكين .
وكان الشيخ بدر الدين كثيرا مايميل اليّ ويكلمني عن حال اليمن والعلماء وحالة مولانا أمير المؤمنين الامام يحيى حفظه الله تعالى ومحافظته على اقامة الشريعة واجراء الحدود , ثم يقول خذوني معكم الى اليمن أسكن هنالك . واذا زار الشيخ أحدا وصافحه لم يمكنه من تقبيل يده بل يهربها , وبعد ملاطفة الشيخ للزائر بالكلام والسؤال عن صحته وحاله يطلب الزائر منه الدعاء فيقول الشيخ الله يوفقنا ولم يزد على ذلك . وقد يقول ( الله يفرج عن المسلمين ) . واذا أطال الزائر الكلام أوالجلوس ولم يكن وقت درس لقصد الزائر السماع فيقوم الشيخ ويخرج دائرا في حجرة المدرسة ولسانه لم يفتر عن ذكر الله تعالى , وانما خروج الشيخ خشية أن يقع في فضول الكلام أو سماعه لشيء لايعنيه . واذا علم بأن شدة نزلت بأهل بيت , أو كان بأنسان فاقة أرسل لوكيله يسد عنهم تلك الشدة والفاقة. وفي أيام العيد يحضر الناس لزيارته من الأمراء وغيرهم من سائر الطبقات فيغلق على نفسه في مكانه في مدرسة دار الحديث ويأتون الى وكيله ومكان وكيله بازاء مكان الشيخ فيقوم الوكيل بواجب التبريكات للزائرين ويقدم لهم المعتاد من الحلوى والقهوة , وعند خروجهم يدخل الزائرون لزيارة الشيخ ويسلمون عليه وهم واقفون ثم يطلبون منه الدعاء فيجيب عليهم الله يوفقنا وعدم دخول الجميع اليه انما هو بقصد التخفيف على الشيخ لاتكبرا مع كثرة الناس ثم يرد وكيل الشيخ الزيارة لكبراء الناس وهو قائم مقام الشيخ في كل ذلك , وكل ما يتعلق بحوائج أهل بيت الشيخ . واذا خرج الشيخ لصلاة الجمعة في الجامع الأموي أو لزيارة مريض أو جنازة ترى الناس يزدحمون لتقبيله في ظهره وكتفه , وأما يداه فيهربهما تحت ثيابه وبعض خاصته من العلماء يذودون الناس عنه ويقولون لا تؤذوا الشيخ افهموا , والناس يقولون للشيخ ادع لنا فيقول الله يوفقنا . ولبسه جلباب من أسفل ويعلوه من جنسه مثل الجبة بكم قصير وكلاهما قطن من عمل الشام من أدنى النسيج الذي يلبسه الفقراء . وفي بعض الأوقات كنت أنا أطلب منه الدعاء فيقول كعادته الله يوفقنا , فأقول له أدع لي وحدي فيضحك ثم يقول الله يوفقك . واذا مر بطريق عند خروجه من المدرسة بعد المغرب الى بيته ووجد صبيانا يسلم عليهم ويقول كيف حالكم , ومن عرفه من الصبيان يسعى لتقبيله . والخلاصة أن أخلاقه وأحواله مطابقة للأخلاق المحمدية والشمائل النبوية سألت العلامة وكيله , هل ألف الشيخ شيئا , فقال : ألف سابقا في علم الأثر ثم مزقه خشية الشهرة ونحوها . وكان بعض المشائخ من تلامذته حال مذاكرة بعض المسائل التي تحتاج الى شرح طويل يقولون لو تؤلف ياسيدنا في هذا الموضوع رسالة , فيقول الموجود بين أظهرنا من كلام العلماء فيه الكفاية . ومن أراد الاطلاع على ترجمة حياته فليطالع الجرائد المصرية والشامية لتأبينه عند وفاته رحمه الله تعالى . ولم أطلع على شيء منها بل اطلعت على جريدة الايمان الصنعائية فقد ذكرت بعض ما فيه الكفاية . وله كرامات تركت ذكرها ربما ينكرها منكر كرامة الأولياء ولله در القائل
واذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
قد تم بعون الله تعالى تدوين هذه الرسالة المختصرة المشتملة على تاريخ حياة المحدث الأكبر المرحوم الشيخ بدر الدين الحسني وقد سميتها الدر اللؤلؤية في النعوت البدرية مستعينا ببارىء خير البرية وكان الفراغ منها عصر يوم الثلاثاء الواقع في 19 ذي القعدة سنة 1370ه الموافق 21 آب سنة 1951م .
محمود الرنكوسي يتبع,,,,,,,,,,,,,,,,,,,[/color]
عدل سابقا من قبل Admin في الأربعاء فبراير 09, 2011 8:27 am عدل 1 مرات | |
|