«تصور أن حكماً بالإعدام قد وقع بحقك، وأن ساعة تنفيذ هذا الحكم قد حانت. وقد عصبوا عينيك وقيدوك إلى عمود، وجيء بعشرة رماة اصطفوا قبالك استعداداً لرميك بالرصاص. ثم يصدر الأمر بإطلاق النار، ويتناهى إلى سمعك طلقات الرصاص، غير أنه سيتبين لك بعد هنيهة بأنك لم تصب بمكروه. وأنك لازلت في سلامة وأمان، وأن الرماة قد أخطؤوك تماماً. كيف ستكون ردة فعلك حينئذ؟ أتقول لنفسك: بأنه ليس ثمة ما يحتاج للتفسير، فها أنا لا أزال على قيد الحياة، وانتهى الأمر. أم أنك ستقول لنفسك: لا بد أن ثمة أمراً وراء هذا الذي حدث، وأن هذا العمر الجديد الذي كتب لي، إنما كان بإرادة وتنفيذ واضحين؟»..
وفق هذه القصة المجازية يصور لنا الفيلسوف جون لسلي John Leslie الوضع الذي تجد البشرية نفسها فيه اليوم فيما يتعلق بمسألة وجود الكون: فلو كانت القوانين والقواعد التي بني عليها قد اختيرت في شكل عشوائي لكان احتمال ظهور الحياة فيه ضئيلاً جداً ولكانت إمكانية وجود العقل «المفكر» الذي يمكن له أن يبحث حول مثل هذه المسائل مستحيلة.
ولتوضيح هذا المعنى سنقدم هنا أمثلة بسيطة لما توصل إليه العلم الحديث في هذا الصدد: - لو أن قوة الجاذبية كانت أقل بقليل (لنقل بـ 1 %) مما هي عليه في كوننا،لاستحال تشكل النجوم، وبالتالي لاستحال تكون الكربون والأكسجين وغيرهما من العناصر الضرورية للحياة وللوجود البشري. كما أنها لو كانت أقوى في شكل طفيف مما هي عليه في كوننا لانهار هذا الأخير بعد وقت قليل من خلقه، ولما ظهرت فيه المجرات والنجوم التي فيها يتم طبخ العناصر الأساسية للحياة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] الكهرباء أيضاً، (والمتمثلة في شحنة الإلكترون الأساسية) لو أنها كانت أضعف بقليل مما هي عليه، لترتب على ذلك تباطؤ التفاعلات الكيميائية ، واستحال بناء على ذلك تكون الجزيئات الأعقد فالأعقد (وحتى الحمض النووي DNA)، تلك الجزيئات التي هي أساس الخلايا والحياة. كما أنه لو كانت الكهرباء أقوى مما هي عليه، ولو في شكل طفيف لما تمت التفاعلات الكيميائية لأنها تحتاج في تلك الحالة إلى كمية أكبر من الطاقة، وهذه لا تتوافر في الكون إلا بمقادير محدودة عادة...
ما الذي يجب أن نستنتجه إذن ؟ هل يجب أن نكتفي بالقول نحن هنا وهذا كوننا، يجب أن نقبله كما هو، وانتهى الأمر؟ أم يجب أن نفكر بالأحرى بأن ثمة، دون أدنى شك مبدأ فرض ظهور الإنسان، بل وجوده في تناغم تام مع باقي الكون وصفاته؟
إن هذه السلسلة من الملاحظات الكونية، التي لم نعرض منها هنا سوى اثنتين رغم إفراز العلم الحديث للعشرات منها، هي التي أظهرت للسطح أخيراً ما سمي بـ «المبدأ الأنثروبي» Anthropic Principle، الذي يرى أنه إما أن خالقاً مصمماً بارعاً خطط لظهورنا في كون أنيق وبديع وذلك من خلال أدق التفاصيل، وإما أننا نوجد في كون من بين بلايين البلايين من الأكوان المختلفة، كلها عقيمة ما عدا كوننا (العجيب)، وبالتالي فإن كوننا هو «الورقة الرابحة» الوحيدة بين بلايين الأوراق الخاسرة، وذلك من دون الحاجة لأن نرهق عقولنا بالتفكير في ذلك كثيرا...
وعلى رغم الجدل المحيط بهذا المبدأ الحديث وردود الفعل المتباينة التي ظهرت حوله خلال العقدين الأخيرين، إلا أننا لا نبالغ إذا قلنا بأن المبدأ الأنثروبي قد شكل نسقاً paradigm علمياً وفلسفياً جديداً وقاعدة خصبة للحوار والنقاش بين العلم والدين (بتعريفين عامين). ونذكر في هذا المعنى العالم نيكولا دالابورتا Nicola Dallaporta الذي كتب: «إن التعرف على المبدأ الأنثروبي يجب اعتباره لحظة حاسمة في تطور العلم، إذ فتح أبواباً نحو آفاق مجهولة عن الكون سابقا...» وجورج كوينGeorge Coyne حيث يقول: «أعتقد أن المبدأ الأنثروبي لم يشكل فقط حافزاً للبحث في الكوسمولوجيا، بل قدم نقطة لقاء محركة بين علوم الطبيعة واللاهوت، وإنه يعمل على إعادة إدراج العامل البشري الذي كان قد أقصي منذ قرون من الفيزياء» (انظر كتاب «المبدأ الأنثروبي: هل الإنسان هو مركز الكون؟» – ج. دوماري ود. لامبار، آرمان كولان، باريس، 1994). وتجدر الإشارة الى أن أول ذكر لمثل هذا المبدأ قد جاء على لسان العالم الفيزيائي الأنجليزي براندن كارتر Brandon Carter في محاضرة ألقاها بمناسبة الذكرى المئوية الخامسة لولادة كوبرنيكس، ذلك القس العالم الفلكي البولندي الذي أزاح الأرض والإنسان من مركز العالم، المركز الذي كنا نحتله في تصورات ونماذج الإنسان قبل ذلك... عدنا إذن اليوم إلى المركز والصدارة على ما يبدو...
ولا شك أيضاً أن المعسكر الديني قد وجد في هذا المبدأ نقطة ارتكاز وتأكيد لمبادئه وتصوراته للوجود، سواء للكون أم للحياة أم للإنسان، مؤكداً أن هذه الأمور لا يمكن معالجتها باعتبارات علمية (أو علماوية) محضة، وأن مبادئ «ميتافيزيقية» أو على الأقل «أنثروبية» تفرض نفسها على العلماء والفلاسفة في هذه المواضيع.
لم يتفاعل المسلمون مع هذا المبدأ، وهذا التطور العلمي الفلسفي إلا ببطء وتردد شديدين، وذلك لأسباب عدة. أولها لأن المسلمين كانوا دوماً من المؤكدين على «حجة الصنع»، التي تتخذ من «الصناعة البارعة» للطبيعة حجة ودلالة على وجود الخالق، وقد وجد المسلمون في القرآن الكريم إشارات وتوجيهات عديدة بهذا الصدد، فلم يروا في إعادة ظهور هذه الفكرة (في ثوب جديد وحديث) تطوراً لافتاً للنظر. ومن جهة أخرى تم إبعاد هذا النسق العلمي- الفلسفي - الديني جانباً بعمد من طرف بعض المدارس الفكرية الإسلامية ذات البرنامج الفلسفي المختلف، مثل تلك التي تدعو الى تطوير «علم قدسي» sciensa sacra ينفصل بوضوح عن «العلم الغربي المادي الحديث» والذي لا يمكن – في نظر هذه المدرسة – أن ينصهر أو يتماشى مع الإيمان والوحي والآيات المقدسة. وكذلك نذكر الحيرة والخيار الصعب اللذين وجد العلماء والمفكرون المسلمون أنفسهم أمامهما، إذ يفرض المبدأ الأنثروبي في نسقه مبدأ التطور (الفيزيائي والبيولوجي) على كل الأزمنة، من العصور الأولى بعد خلق الكون وتمدده الى تكوّن الأرض وتطوّرها وظهور الحياة عليها، بما في ذلك ظهور الإنسان، حسب سيناريوات العلم الحديث.
نعود لنقول إن القرآن والتراث الإسلامي يزخران بحجج من نوع «براعة الصنع»، وربما أيضاً من نوع «المبدأ الأنثروبي» - الى حد ما-. لنذكر على سبيل المثال الآيات التالية من القرآن الكريم: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ» (لقمان 20)، «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى» (الأعلى 2-3)، «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ» (الملك 3).
ولهذا، أي بسبب وجود إشارات عديدة الى مبدأ «الصنع البارع» في القرآن، لم يتجاهل المتكلمون المسلمون حجج «براعة الخلق» و«العناية الإلهية» (بالإنسان بخاصة وبسائر الخلق بعامة) في اعتباراتهم على مر العصور. فهكذا نجد جعفر الشيخ إدريس، الفيلسوف الإسلامي المعاصر، يؤكد على التناغم الموجود بين مخلوقات العالم ويعتبر ذلك دليلاً على وجود الله، فيسميه بـ «دليل العناية». وهو في هذا إنما يعيد صياغة أفكار ابن رشد، فيلسوف الإسلام الأكبر، الذي كان قد أكد على أن الخلق يدل، من خلال الترتيب والتناغم والتكامل الظاهرين في أجزائه، الى وجود هدف مرسوم للخلق كله، وأن الأجسام الطبيعية لم تأت هكذا بغير تدبير، بل أنها تشير الى غايات محددة رسمها الخالق...
ويجد إدريس بالإضافة إلى ذلك، جانباً أنثروبياً في الآيات التالية: «أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً» (النبأ 6-16)، «وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ» (الأنباء 31-32).
فيقول: «وإنما تدعونا الآيات إلى أن نفكر في الصلة بين كل واحد من هذه المخلوقات والأحوال وبين شيء آخر هو الإنسان المخاطب بهذا الكلام. تدعونا الآيات إلى أن نلاحظ أن كل واحد من هذه الأشياء والأحوال يحقق بالنسبة إلينا نحن البشر هدفاً (وهذا لا يمنع أن تكون له غايات أخرى لا نعلمها). [...] وحتى تلك الأفلاك البعيدة عنكم لها تعلق بكم، فكما أن الأرض لكم فراش فالسماء لكم بناء أي سقف، والشمس سراج يمدكم بالنور والحرارة اللتين لا تكون بدونهما حياة بشرية ولا حيوانية ولا نباتية» (جعفر الشيخ إدريس «الفيزياء ووجود الخالق»، الطبعة الثانية، المنتدى الإسلامي، 2001).
وقبله كان ابن رشد قد خلص الى أن كل ما يوجد في الطبيعة متناغم مع الإنسان، وأن هذا التوافق لا بد أن يكون نتيجة فعل مدبر ومنفذ أراد ذلك.
قبل هذا، وخلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، نجد فخر الدين الرازي، العالم والمتكلم المفسر والفيلسوف، قد أكد في مؤلفه العملاق «مفاتيح الغيب» أن لكل جسم في العالم الطبيعي نمط وجود محدداً من بين أنماط عديدة ممكنة مبدئياً، وأن ذاك النمط المحدد للجسم «مقدر بمقادير مخصوصة» من طرف الخالق. فمثلاً تكون للأجرام السماوية مدارات وإحداثيات زمنية ومكانية دقيقة تبيّن «تدبيراً كاملاً» و«حكمة بالغة» (حسب تعبير الرازي). كما يؤكد بأن كل الأجسام، أرضية أو سماوية، حية أو جامدة، قدّرها الله في شكل يخدم مصالح البشر. وأخيراً يلفت الرازي انتباهنا الى الروابط المعقدة الموجودة بين «النعم الآفاقية» و»النعم الأنفسية»...
أما في العصور الحديثة، فنخص بالذكر مفكرين مسلمين كبيرين، يختلفان في توجهيهما وميوليهما الفلسفيين، هما: محمد إقبال، الفيلسوف الشاعر الهندي الكبير، وبديع الزمان سعيد النورسي، مؤسس حركة النور التركية. فقد لا يستغرب العارفون فلسفة إقبال كونه لا يقتنع ولا يولي اهتماماً بالحجج العقلانية والطبيعية عموماً، و «حجة الصنع» في شكل أخص، بل يرد فكرة «الهدف المسطر» للكون التي من شأنها - في تصور إقبال - نزع كل صفة خلاقة وكل جانب إبداعي للكون. وعلى العكس من ذلك نجد سعيد النورسي منبهراً جداً بـ «التوازن الملحوظ في كل مكان والتعاون الموجود عبر الكون كله»، مما يمثل بالنسبة إليه «دليلاً مادياً على الوحدة الإلهية».
و كان كثير من العلماء المسلمين يعتبرون العلم بمثابة البحث عن الطرق التي قام الخالق، بجوده وحكمته الواسعتين، بترتيب العالم وتسخيره للإنسان. ولذلك نتفهم كون «حجة الصنع» و«المبدأ الأنثروبي» في صيغتيهما الحديثتين، لم يبهرا المسلمين كثيراً. ثم يبدو أن فهم المسلمين لهاتين الفكرتين لا يزال يقتصر على مفهومي «الخدمة» و»الفائدة» اللتين يمكن للإنسان الحصول عليهما من الأجسام الطبيعية وليس القوانين والقواعد التي بني عليهما الكون من أجل وجود الإنسان...وأخيراً يجب التأكيد على الطابع التطوري الكامن في المبدأ الأنثروبي، أي تضمنه سيناريواً تطورياً للكون كوحدة وجودية وكجملة من الأجسام (الجامدة والحية). ونعلم أن مصطلح ومفهوم «التطور» لا يزالان يشكلان عقدة وحاجزاً بالنسبة الى الأغلبية الساحقة من المسلمين، بما في ذلك المثقفين منهم.