لقد بلغ المنهاج النبوي غايته وحقّق أهدافه في تربية شباب الصحابة حتى
بلغ الشاب مبلغاً لم يبلغه الكبار ، فقد برز الشباب في جوانب كثيرة في
العلم والإيمان ، والدعوة والجهاد ، وسائر الأعمال الصالحة . وسأعرض
باختصار شديد بعض ما وصل إليه شباب الصحابة وتفوقوا فيه :


فهذا معاذ بن جبل يأتي إماماً للعلماء يوم القيامة كما قال صلى الله عليه
وسلم : (( يأتي معاذ بن جبل يوم القيامة إمام العلماء برتوه )) .


ولقد كانوا أعلم الناس بكتاب الله ، وأجمع الناس له ، وأدرى الناس بمعانيه
وأحكامه ، قال عبدالله بن مسعود : ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما نزلت
.. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن من الشباب : (( استقرئوا
القرآن من أربعة : من عبدالله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن
كعب ، ومعاذ بن جبل )) ]رواه البخاري [.


وقد أمر أبوبكر الصديق زيد بن ثابت بجمع القرآن ، مما يؤكد مكانة الشباب .


ولقد أثمرت توجيهاته صلى الله عليه وسلم جيلاً مؤمناً محباً لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم ، ولقد شهد بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم خيبر
حينما قال : (( لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه ، يحبُّ
الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله )) .]رواه البخاري [.


ولقد ظهرت قوة إيمانهم وصلابته يوم ثبتوا ثبوت الجبال الراسيات في مواجهة
الابتلاءات التي تعرّضوا لها من قريش ، فهذا خبّاب بن الأرت جعل الكفار
يلصقون ظهره بالرضف حتى ذهب لحم متنه رضي الله عنه وأرضاه . وهذا مصعب بن
عمير بعد أن كان يلبس القشيب الزاهي ، وكان بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام
والشراب ، فلمّا أسلم منعوه من ذلك كله ، حتى أصبح يلبس البالي المرقع ،
فاختار شظف ا لعيش وشدة الحال حبّاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .


ولقد بذل شباب الصحابة الغالي والنفيس في سبيل الله ، فهذا علي بن أبي
طالب يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، ويبيت في فراشه ، وكان
عمره آنذاك نحواً من ثلاثة وعشرين عاماً . وذاك طلحة بن عبيد الله يقف مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ليفديه بنفسه ويترس عليه ليرد عنه
النبل بيده حتى شُلّت يده رضي الله عنه وأرضاه .


وكان من نتائج تربيته صلى الله عليه وسلم للشباب صمودهم أمام الدنيا
وزينتها . فقد أراد عمر بن الخطاب أن يمتحن معاذ بن جبل وأبا عبيدة بن
الجراح بالمال ، فأعدّ عمر لكل واحدٍ منهما أربعمائة دينار ، وجعل كل واحدة
في صرة ، وقال للغلام : اذهب بها إلى معاذ ثم إلى أبي عبيدة ، وتشاغل في
البيت قليلاً لتنظر ما يصنع كلٌ منهما ! فما كان من معاذ إلا أن فرّقها
جميعاً ولم يبق لأهله إلا دينارين . وكذلك فعل أبو عبيدة . فرجع الغلام إلى
عمر فأخبره فسُرّ بذلك عمر وفرح وقال : إنهم أخوة بعضهم من بعض .


ولقد ترجم شباب الصحابة الإيمان إلى أعمال صالحة ، فمن ذلك أن ابن عمر كان
له مهراس فيه ماء فيصلي ما قُدّر له ، ثم يصير إلى الفراش ، فيغفى إغفاء
الطير ، ثم يثب ويتوضأ ثم يصلي ، يفعل ذلك أربع مرات أو خمس مرات ..


وكان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخلٍ ، وكان أحب أمواله إليه
بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من
ماء فيها طيب ، فلمّا نزلت هذه الآية : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }(آل عمران: من الآية92) فقال أبو طلحة :
يارسول الله إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برّها
وذخرها عند الله ، فضعها يارسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : (( بخٍ ، ذلك مالُ رابح ، ذلك مالُ رابح .. )) ]رواه
البخاري [.


ولقد تربى ذلك الجيل من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاتصفوا بصفات كثيرة من الأخلاق الحسنة ، والآداب النبيلة ، ومن جملة هذه
الآداب :


أ) الأدب مع الوالدين والبر بهما :


فهذا أسامة بن زيد يعمد إلى نخلة فينقرها ويخرج جمارها فيطعمها أمه . فقال
له : ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم ؟ قال : إن أمي
سألتنيه ولا تسألن شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها .


وما كان أبو هريرة يحج حتى ماتت أمه لصحبتها .


وهذا الشاب معاذ بن عمرو بن الجموح يسعى لخلاص والده من عبادة الأوثان من قبل أن يكون في ظلمة قبر مرتهن .

ويشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للشاب جعفر بن أبي طالب بالخُلقُ الحسن العظيم بقوله : (( أشبهت خلقي وخُلقي )) .


ولقد أثمرت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه جيلاً مجاهداً شجاعاً
يبذل النفس والمال ، ويضحي بكل ما يملك في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ونصرة
دين الله ، ولقد كانت لأولئك الشباب بطولات رائعة ومواقف خالدة ، حسبنا
نماذج موجزة من أحوالهم في الجهاد ونصرة دين الله والدفاع عن رسول الله .


1- عمير بن أبي وقاص في السادسة عشر من عمره يخرج مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصحابته يوم بدر ، فكان يتوارى ويجتهد لئلا يراه أحد ، فرآه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرده ؛ لأنه لم يبلغ مبالغ الرجال ،
فبكى عمير ، ورقّ قلبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه وقُتل شهيداً
في هذه الغزوة .


2- روى البخاري ومسلم عن عبدالرحمن بن عوف قال : بيّنا أنا في الصف يوم بدر
، إذ التفتُّ عن يميني وعن يساري فإذا فتيان حديثا السن فقال لي أحدهما
سرّاً من صاحبه : ياعم ، أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي وما تصنع به ؟
قال : عاهدت الله إن رأيته أن اقتله أو أموت دونه . فقال لي الآخر سرّاً من
صاحبه مثله . قال : فما سرّني أني بين رجلين مكانهما ، فأشرت لهما إليه
فشدّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه . وهما ابنا عفراء.


3- وفي معركة أُحد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الفتيان لم
يبلغوا الخامسة عشرة فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن رافعاً رامٍ
فأجازه ، ولكن لشوق سمرة بن جندب للشهادة قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم لقد أجزت هذا ورددتني ولو صارعته لصرعته . فقال : (( فدونكه )) فصارعه
فصرعه سمرة فأجازه .


4- ويتجلى أثر التربية النبوية واضحاً في مواقف حنظلة بن أبي عامر ، وكان
عروساً ليلة أُحد ، فعندما سمع النداء عجّل بالخروج ، ولم يغتسل وقاتل حتى
استشهد ، وعندما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( إن صاحبكم لتغسله
الملائكة )) ولذا عُرف بعد ذلك بـ (( غسيل الملائكة أو الغسيل )) .


5- ولقد أثمرت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في تطلعات الشباب وآمالهم ،
فلقد كان الواحد منهم يجتهد في فعل ما يرضي ربه . قال عوف بن الحارث يوم
بدر : يارسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟ قال : (( غمسة في العدو حاسراً
)) فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قُتل .


إنها التربية النبوية التي أدت بهذا الشاب إلى سؤال النبي صلى الله عليه
وسلم هذا السؤال الغريب العجيب ، فقد كان همُّه وشغله الشاغل أن يتقرب إلى
ربه وهو في ساحة القتال بأحب الأعمال إلى الله .


هكذا هو جيل الشباب ، الجيل الذي تربى بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم واقتفى أثره ، واستنّ بسنته ، وأدرك حقيقة هذا الدين ، ثم آمن بالله
ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .
ولما كان إيمانهم راسخاً انبثق عنه سلوك عملي ظهر في حياتهم الخاصة والعامة
، وعباداتهم ، ومعاملاتهم ، وفي حرصهم على نشر الخير في الأرض كلها .


وما أحوجنا في هذه الأزمنة إلى جيل مؤمن بربه ، مقتدٍ بنبيه ، يقود الأمة
إلى سابق عزها وسؤددها ، وهذا لن يتأتى إلا بالاهتمام بالنشء وتربيتهم
تربية إيمانية مستمدة من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .