موازاتها لمراتب الوجود
1ـ النسق الفكري لابن عربي :
هذه
هي الحروف في تجلياتها ومراتبها وأسرارها ، فما هو النسق الفكري الوجودي
الذي وضعها فيه الشيخ ابن عربي ( 560هـ/11651م-638هـ/1240 م)؟ وما الدلالات
التي تأخذها في هذا النسق ؟.
إن بنيَة النسق الفكري لابن عربي
تَرُومُ أولاً وقبلَ كل شيء إزالة التعارضات الثنائية من الوجود ، ومن
المعرفة والفكر ، ومنطَلَقُه في ذلك << وحدة الوجود = وحدة الشهود
>> لا بالمعنى الفلسفي الذي يُوهِمُ به المصطلحُ Pantheisme في
الفلسفة الغربية المُراوحةِ بين إمَّا وإمَّا ، بمعنى أنها إمَّا تُحِلَّ
اللهَ في الطبيعة والعالم ، أو إِمَّا أن تُلغي العالمَ والطبيعة لحساب
الوجود الإلهي . بينما ابن عربي في نسقه الفكري يُركّزُ على أبعدَ مِمَّا
هو متصوَّرٌ، فهو نَظريًّا يحتفظ بالثنائية في شكل << مراتب >>
يُدركُها الذهنُ ويُميز بينها، وعَمليًّا يُقيمُ وسائطَ عديدة بين طرفي
كل ثنائية تَجمعُ كل الثنائيات وتُوحِّد بينها .
فَعَلَى المستوى
الوجودي الخالص نَرى الذات الإلهية تتميزُ في مرتبة <<
الأحدية المطلقة>> باستقلال تام ، لأنها مرتبة << الوجود بشرط
شيء>> ، أما العالم فهو بتعدد مراتبه فَلَهُ<< الوجود لا بشرط
شيء>> . وهذه الثنائية الوجودية يتميز طرفُها الأول بالتحرر الكامل
من كل شرط، لكونها مرتبة النفي المطلق (=لا بشرط شيء) ، بينما يتميز الطرف
الثاني بالوقوع في أسرِ الشرطية الكاملة الذي هو الإثبات(= بشرط شيء)، مما
يؤشر على جدلية النفي والإثبات (1) بين هذه الثنائية ، حيث <<
المناسبة بين الخَلق والحق غير معقولة ولا موجودة ، فلا يكون عنه شيء من
حيث ذاتُه ،ولا يكون عن شيء من حيث ذاتُه . وكل ما دل عليه الشرعُ أو اتخذه
العقل دليلا إنما مُتعلَّقُه الأُلُوهَة لا الذات ، فالله من حيثُ كونُه
إلِهًا هو الذي يستند إليه المُمكِنُ لا مكانُه>> (2) ، <<
وأمَّا أحدية الذات في نفسها فلا تُعرَف لها ماهية حتى يُحكَمَ عليها ،
لأنها لا تُشبِه شيئا في العالم ولا يُشبهها شيء>> (3) ، وذلك
لـ<< أنَّ الكون لا تَعلُّقَ له بعلم الذات أصلاً ،وإنما مُتعلقُه
العلِم بالمرتبة وهو مُسمَّى الله ، فهو الدليلُ المحفوظ الأركان الدَّالُّ
على معرفة الإله وما يجب أن يكون عليه سبحانه من أسماء الأفعال ونعوت
الجلال، وبأية حقيقة يَصدر الكون عن هذه الذات المنعوتة بهذه المرتبة
المجهولة العين والكيف. وعندنا لاَ خِلافَ في أنها لا تُعلَم ، بل يطلق
عليها نعوتُ تنزيه صفاتِ الحَدَثِ ، وأن القِدَم لها والأزل الذي يُطلق
لوجودها إنما هي أسماءٌ تدل على أسلوب مِنْ نَفْيِ الأولية وما يليق
بالحدوث . وهذا يخالفنا فيه جماعة من المتكلمين الأشاعرة ، ويتخيلون أنهم
قد علموا من الحق صفة نفسية ثبوتية ، وهَيْهَات أنَّى لهم بذلك >>
(4) .فابن عربي هنا ينقد الأشاعرة ، ويرفضُ قولَهم بوجود صفاتٍ لله ذات
وجودٍ متميزٍ عن ذاته تعالى ، وذلك لأن الصفات عنده ما هي إلا مجرد أسماءٍ
ونِسَبٍ لا تتمتع بأي وجود ، وهذا هُوَ مَا يَعْنِيه من أن الأسماء تدل
بالسَّلبِ على نفي الأزلية والحدوث ،ولذا لا يُتصوَّر أن يكون لها وجودٌ
ثابتٌ. فكل الأسماء والصفات تُمثل مَنطِقةَ وُسْطَى بين << وجود
الذات>> وبين<< الوجود الظاهر>> أي العَالَم، ومن هنا
فإن كل مُثبِتٍ لاسم أو صفة للذات الإلهية إذا وضع في اعتباره مستواها في
الوجود الخيالـــــي
فإنه يكون صادقًا ، أما إذا أدَّعى لها وجودًا ثابتا فإنه يكون على خطأ ، مثله في ذلك مثل المتكلمين عامة والأشاعرة خاصة .
فنقد
ابن عربي للمتكلمين والفلاسفة نابعُُ من كونهم يُثْبِتون صفات نفسية
ثبوتية للذات الإلهية ، وهذا لأنهم لم يميزوا بين مراتب وجودية لا تتمتع
بوجود عيني . فالذات الإلهية لا يتعلق بها من الوصف إلا ( النفي= السَّلبُ)
،أما ( الإثبات) فلا يجوز إطلاقه عليها ، والذي ورد في القرآن من صفات
إنما يُشير للألوهة ، وهي مَرتبةُ الوجود الخيالي الفاصلة والجامعة في
الوقت نفسه بين << الذات >> و << العالم>> (5) .
ومرتبة الوجود الخيالي هاته يُعَرِّفها ابن عربي في سياق حديثه عن البرزخ
حيث يقول : << البرزخ يَتوسَّع الناس فيه، وما هو كما يظنون ، إنما
هو كما عَرَّفنا الله في كتابه في قوله في البحرين :} بينهما برزخ لا
يبغيان{ ، فحقيقة البرزخ أن يكون فيه برزخ ،وهو الذي يلتقي ما بينهما بذاته
، فإن التقى الواحد منهما بوجه غير الوجه الذي يلتقي به الآخر ، فلا بد أن
يكون بين الوجهين برزخ يفرِّق بين الوجهين حتى لا يلتقيان ، فإذًا ليس
ببرزخ . فإذا كان عينُ الوجه الذي يلتقي به أحدَ الأمرين الذي هو بينهما
عينَ الوجه الذي يلتقي به الآخر فذلك هو البرزخ الحقيقي ؛ فيكون بذاته عينَ
كل ما يلتقي به فيَظهرُ الفصلُ بين الأشياء ، والفاصلُ واحدُ العَينِ .
وإذا علمتَ هذا علمتَ البرزَخ ما هو. ومثالُه بياضُ كل أبيضَ ، وهو في كل
أبيضَ بذاته ما هو في أبيضَ مَا بوجهٍ منه، ولا في أبيضَ آخر بوجهٍ آخر ،
بل هو بعينه في كل أبيضَ ، وقد تميز الأبيضان أحدهما عن الآخر ، فَعَينُ
الأبيض واحدُُ في الأمرين ، والأمران ما هو كل واحدٍ عين الآخر ، فهذا مثال
البرزخ الحقيقي ، وكذلك الإنسانية في كل إنسان بذاتها ، فالواحد هو البرزخ
الحقيقي ، وما ينقسم لا يكون واحدًا ، والواحدُ يَقْسِمُ ولا يُقْسَمُ أي
لا ينقسم في نفسه ، فإنه إن قبل القسمة في عينِه فليس بواحدٍ ، وإن لم يكن
واحدًا لم يُقابل كلَّ شيء في الأمرين اللذين يكون بينهما بذاته ، والواحدُ
معلومٌ في أنه ثمَّ واحدٌ بلا شك . والبرزخُ يُعلَم ولا يُدرَكُ ،
ويُعقَلُ ولا يُشهَدُ>>.(6) وهذا التعريف العام للبرزخ الحقيقي بكونه
الواحدَ الذي يَقسِم ولا ينقسمُ أَدَّى بابن عربي إلى الإحتراز عن طريق
التعريف التخصِيصي لِكُنْهِ البرزخِ المرادِ هُنَا ،ولذلك قال :<<
ولما كان البرزخ أمرًا فاصلاً بين معلوم وغير معلوم ، وبين معدوم وموجود ،
وبينَ مَنفيٍّ ومُثبَتٍ ، وبين معقول وغير معقول ، سُمِّيَ برزخًا اصطلاحًا
، وهو معقول في نفسه وليس إلا الخيال ، فإنك إذا أدركتَه وكنتَ عاقلاً
تَعلمُ أنك أدركت شيئا وجوديا وقعَ بصرك عليه ، وتَعلمُ قَطعًا بدليل أنه
ما ثمَّ شيء رأسًا وأصلاً. فما هو هذا الذي أثْبَتَّ له شَيْئِيَّةً وجودية
ونَفيتَها عنه في حال إثباتِكَ إياها ؟ فالخيالُ لا موجودٌ ولا معدومٌ ،
ولا معلومٌ ولا مجهولٌ ولا مَنفي ولا مُثبتٌ>>(7) ولكنه معقولٌ في
نفسه .
إن هذه المرتبة الوجودية لها فعالية تتسع لتُصبح
الحضرةَ الجامعة للحقائق من أعلاها إلى أدناها : الألوهة ، عالمَ الأمر ،
عالم الخَلق ، عالم الطبائع ، وما إلى ذلك من العوالم ، مما يَجعلُ مَجالَ
هذه المرتبة في اتساعٍ لا نهائيٍّ ، إِذْ << ما أوسعَ حضرة الخيال،
وفيها يظهر وجود المُحال ، بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجود المحال؛
فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا يقبل الصورة وقد ظهر بالصورة في هذه
الحضرة .فقد قَبِلَ المُحالُ الوجودِ الوجودَ في هذه الحضرة >>( فالألوهة في جبروتها البرزخي تُقابل الخَلق بذاتها ، وتُقابِل الحق
بذاتها كذلك ولهذا كان لها التجلي في الصور الكثيرة والتحول فيها والتبدل
.فلها إلى الخَلق وجهٌ به تتجلى في صور الخَلق ، ووجهٌ إلى الذات به تظهر
إلى الذات ، فلا يَعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهية
<<…فتحققناها فما وَجَدْنَا سوى ما ندعوه بها من الأسماء الحُسنى ،
فليس للذات جَبْرٌ في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية ، ولا يُعرف من الحق
غير هذه الأسماء الإلهية ، وهي أعيانُ هذه الحضرات >>(9)
ففكر
ابن عربي فكرٌ نسَقيٌّ يَقُومُ على بِنْية دائرية مماثلةٍ لبِنيَة الوجود ؛
الذي تَقوم نظريته ونشأتُه ومراتبُه عنده على هذا الأساس . وقد جَلَّى هذا
كله في كتابيه :<< إنشاء الدوائر ويليه عقلة المستوفز>>
و<< التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكـــــة الإنسانية >>.