الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين .
وبعد ؛
أحببت ان انقل وأبين مفهوم الرابطة النقشبندية حسب ما جاء في اكثر من رسالة لخالي حضرة الشيخ محمد عثمان سراج الدين الثاني الحسيني النعيمي النقشبندي (قدس سره) ، والموجهة الى الأحبة والمريدين ، وقد جمعتها في رسالة واحدة للخروج بقناعة وفهم حقيقي وسليم للوصول الى ثمرة الرابطة النقشبندية . وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على جوهر حقيقة العرفان والعبودية , ومنبع أنوار وأسرار دوائر الطرائق العلية , سر الموجود بين الصانع والموجود , سيدنا ومولانا محمد , الموعود بالحوض المورود والمقام المحمود , وعلى آله وأصحابه التابعين له في طريق المقصود رضاء للملك المعبود . وبعد ,
فإن أخا عزيزا محبوبا من بعيد طلب من الفقير رسالة حول التمسك والرابطة للمبتدئين على الطريقة للاطلاع ودفع بعض الإشكال , وترضية لخاطره , واستفادة للمبتدئين , أحرر هذه الأسطر لتكون في أول الطريق دليلهم , وان شاء الله وبلطفه وإمداد أرواح الأكابر يفتح باب الفيوضات الربانية على قلوبهم ولطائفهم حتى يخرجوا من التقليد المحض , ويحصل لهم نوع مناسب من الإدراك ألشهودي والإحساس القلبي , ويكونوا أهلا لنوع من آداب السلوك , وهناك حسب الأمر والإشارة فإن المرشد يرتب جهدا وسعيا آخر , حتى لا يظن أشخاص غير عالمين ان السير والسلوك وآداب الطريقة هو هذا فقط . ومن المفيد أن يقال لهم : انتبهوا , فهذا الدستور للمبتدئ , وعمل المتوسط والمنتهي نوع آخر ....
والمبتدئ يشاهد أحيانا بواسطة الرابطة وترسيخ العلاقة النسبية أحوالا ومشاهدات ينبغي ان لا يغتر بها , ولا يتخيل ان طريق المعرفة هي هذه الأحوال فقط فينحرف بها عن الصراط المستقيم والنيل بالمقصود (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) الزخرف ( 37,36) . والمبتدئ ليس على مستوى واحد من الاستعداد الفطري والجهد والسعي , ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) نوح 14 , ويشهد عليه الأثر المعروف : الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق , وليس معناه في سبيل العبادة ومعرفة الحق ان يتخذ كل فرد طريقا ومنهجا من عند نفسه لأنه لو اتخذ كل شخص إلهه هواه ودار على دائرة أوهامه وأهمل منهج الشريعة وحقيقة الطريقة فلا يطول الوقت به حتى ينحرف عن جادة الشريعة الغراء , ومن الواضح ان جهاد كل الطرائق وتحمل أنواع الشدائد والزحمات والرياضات من أجل سلوك هذه الشريعة الغراء وإتباعها , فهو في غير هذه الحالة اما منحرف أو متخلف . لكن المقصود من تعدد الطرائق بمقدار أنفاس الخلائق : أي بحسب استعدادهم الفطري ومراتبهم ودرجاتهم ومجاهداتهم خالصا لوجه الله ورضائه . ولذلك بصرف الهمة والغيرة المخلصة في سبيل تنقية النفس من الرذائل البشرية والأخلاق غير المرضية واكتساب الصفات الحسنة والتخلق بسنن حضرة خير البرية عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأزكى التحية . كما أنه عن طريق الدرس والتعليم والفهم والتفهيم وقد جاء في الخبر : كلم الناس على قدر عقولهم , وفي رواية : نحن معشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم . ونقول بكل ثقة وعلى قدر وسعة ظروفهم واستعدادهم ومجاهدتهم وتفكرهم وعدم غفلتهم ودرجات توكلهم , ونظم طبيب لبيب لا يخلط وظيفة المبتدئ مع المتوسط والمنتهي , لأن اشتغال الدارس لكتاب "تهذيب الكلام" ـ كتاب يقرأه الطالب المنتهي في علم الكلام ـ بألف باء أو الكتب الأولية , أو اشتغال المبتدئ بما هو خارج عن محيط ذهنه واستعداده هو تضييع للعلم والوقت والجهد , ولا بد ان نعلم بأن العلم والتعليم والسير والسلوك للمتنسكين السالكين في الطرق العلية يشبه ركوب البحر العميق والمحيط بلا قعر , فالعوم والسباحة فيه لغير أهله ولا على أساس سفينة الشريعة لا يؤدي إلا إلى الهلاك واليأس والحرمان . ومن يريد ان يكون موفقا ويستفاض عليه النور فعليه أولا ان يكون تحت نظر مرشد كامل ليجني الدرر المتلألئة من هذا البحر الزاخر ومن قعره العميق . وكما ان للذكر في الطريقة النقشبندية آدابها فللرابطة أيضا آدابها وبمفاد ومضمون الحديث الشريف : أكثروا ذكر هادم اللذات ـ الموت ـ فإنه ما من قليل إلا كثره وما من كثير إلا قلله . ولمدة خمسة دقائق إلى عشرة يشتغل برابطة القبر والموت ـ لأن التفكر في الموت يجرد المرء عن العلائق المادية والرذائل ويهيئ لتلقي الفيض والاستعداد القلبي ـ وذكر الموت دواء لأمراض النفس ـ وبعد ذلك يبدأ بالرابطة وهي ان تحضر أمام قلبك روح المرشد وتفتح قلبك وهو أسفل الثدي الأيسر وتجعله مثل آنية كبيرة نظيفة أمام فيوضاته وتعلم ان روح حضرة الرسول صلوات الله عليه وآله وصحبه وسلم حاضر في صدر المرشد وبجهة أعلى وتتصور هطول الأنوار والفيوضات الربانية من بحر رحمة الحق جل جلاله وعم نواله , على روح صاحب الفتوحات حضرة الخاتم صلوات الله عليه وآله وصحبه وسلم , وتنزل عليه وهو الواسطة العظمى بين الخالق والمخلوق قبل كل واسطة ووسيلة , ومن قلبه المبارك إلى قلب المرشد ومنه إليه ـ شخص المريد ـ لاكتساب المحبة الإلهية في قلبه . وليكن معلوما هذا التصور والانتظار يجب ان يكون فقط مع مجرد روح المرشد لا مع غيره وان لا يتصور الصورة الظاهرية ويحسب انه لم يرَ صورته قط لأن تعامل العظماء والأكابر مع الروح فقط لا مع الأجسام . وحسب القاعدة وآداب الطريقة يكون الشخص أثناء الرابطة مغمض العينين حتى يكون حضوره أتم وأكمل . وإذا رأى أثناء الرابطة أشكالاً وألوانا بنظر خياله فليوجه ملكة الرابطة إليها ويستمد منه أن يدفع هذا المشهود وإذا لم تمحَ بواسطة الرابطة فلا يشغل فكره بها ولا يبالي بوجودها , ويداوم على شغله وانتظاره كما في السابق , وإذا ظهرت صورة المثال لصاحب الرابطة ـ يعني المرشد ـ بشرط الاشتغال مع الروح المجرد لا مع الصورة فلا بأس وان قيل كيف يتصور إحضار ملكة الرابطة بدون تصوير وتجسيم وتخيل صاحب الرابطة , نقول : ان هذا له مثال لون ورائحة الأزهار من أغصان وأوراق الأزهار نفسها أو إحساس ضوء الشمس من كوة داخل الغرفة محسوس ومتصور يتميز بعضها عن بعض وليس له وجود خارجي بمعنى وجود قائم بنفسه أو بعبارة أوضح : ان كل فرد يصدق ويذعن إذعانا كاملا بوجود روحه وهو متعلق بجميع ذرات وجوده في بدنه , ومع هذا ـ نظر غير أهل البصيرة ـ فإن تصور حقيقة الروح ليس ممكنا , وإن الأجسام اللطيفة مثل الجن والملك والهواء وغيرها موجودة ووجودها الخارجي قائم بذاته وتصوير أشكالها أو اختراع صورها خارج عن قوة خيالنا , والمهم أن المبتدئ عليه أن يشتغل بهذا الترتيب في إحضار ملكة الرابطة ويداوم عليه وكما قيل : ان هذا السؤال والجواب لأشخاص حديثي عهد بالطريقة والقادمين لأول مرة ويجب ان يدخل بصدق النية وتسليم كامل ولا يدع للخيال الباطل والتصور الفاسد أن يتسرب إلى ذهنه فيشوش عليه حاله لأنه رقيق جدا , وإلا فبعد مدة وجيزة من الدوام على هذا النحو يظهر عليه حسب استعداده وسعيه وضع شهودي ان شاء الله ويتحرر عن التقليد والتصور المحض ويظهر له بجلاء عالم آخر ووضع جديد وحالة وجدانية لم يكن يحس بها من قبل , ويعلم انه يوجد ما وراء عالم المادة والمشاهدة عالم آخر وهو عالم المجردات وإدراك حقائق الأشياء وحقيقة معرفة الله تعالى إلى حدود الطاقة البشرية وفي غير هذا العالم عالم التصوف غير ممكن ولا يمكن الخروج عن دائرة التقليد ولو كان أرسطو زمانه .
ان هذا الترتيب في أول جلسة الرابطة وليس من الواجب أن يتخيل في كل لحظة ان ملكة الرابطة باقية في مكانها او لا أو أن الفيوضات الواردة من النبع إلى قلبه باقية بحالها أو لا , وكمثال على ذلك أن البستاني أو المزارع وقت السقي والإرواء يأخذ من النهر أو العين المعينة مقدارا لازما من الماء يلاحظه ويرعاه إلى ان يصل إلى البستان او الحقل وبعد وصول الماء لا يراجع إلى المنبع كل لحظة بل يشتغل بالسقي والإرواء وليحذر أن يجلب لنفسه خواطر ما يوجب تشويش الخاطر ولو ظهرت أثناء الرابطة أمور خيالية وتفكرات واهمة وشغلته عن انتظار الواردات فلينتبه وليرجع إلى الرابطة وهذا كاف وكلما كان مرتبطا وفكره مع الرابطة فالرابطة لا تدعه يتيه ويضل , وهو معذور في خيالات لا تنقطع حتى في الصلاة , ومعلوم انه كلما كان الاشتغال بالرابطة أكثر كان النفع أزيد وأقوم . وإذا أراد المرء ان يشتغل بالذكر القلبي فليدع الرابطة ويتفرغ للذكر القلبي ولا يمزج بينهما. وهذا كافي للمبتدىء والبقية محولة إلى لطف الله وتوفيقه الخاص (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) النجم 39 .
فمصدر الرابطة على الحقيقة مأخوذ من أمره تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة 119 , فهذا الأمر الإلهي ليس بعبث ولو لم يكن في كينونتنا مع الصادقين فائدة لنا ولقلوبنا ولتطهير النفوس من أرجاس الفسق والكفر والعناد لما أمرنا الله به , ولكان الأمر فقط بعمل الواجبات الشرعية وترك المنهيات , فلماذا إذاً أمر بأن نكون مع الصادقين , هل هو للتسلية بالتحدث والقصص واللهو ؟ كلا , بل لاكتساب البركات المعنوية التي تسري من قلب الإنسان الكامل الصالح المقرب من الحق تبارك وتعالى إلى قلب جليسه ومحبه ومريده الذي يحبه ويعتقده لمحض وجه الله تعالى واليه الاشارة في الحديث الصحيح الشريف بقوله : إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة . ونافخ الكير ـ اي الحداد الذي يوقد الفحم لتحمية الحديد ـ إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا منتنة . ولنرجع إلى الآية ونفكر كيف يمكن لأنسان ان يكون مع الصادقين اذا كان هو في غرب الأرض وكانوا هم في شرقها , فكيف يمكنه تطبيق أمر الآية , والحال أن الكينونة الجسمية معهم في كل وقت متعذرة ؟ فإذن تعين أن يكون المؤمن معهم بقلبه ومؤيدا لمبادئهم منفذا لأمر الله في هذه الآية ليستفيد ببركة هذه المعية تنوير باطنه وانتقاله من حالة الظلمانية إلى حالة النورانية والطمأنينة القلبية , وهذا هو ما يأمر به مشايخ الطرق العلية عندما يشيرون إلى المريد بعمل الرابطة الشريفة , فتنبعث نفسه ناشطة لذكر الله تعالى وكسب محبته وتصفية ما علق فيها من أدران الغفلة والعيوب والنقايص في سالف زمانه , فلا يزال ناشطا مجدا ساعياً في كسب المحبة وماشيا على بصيرة وهدى إلى ان تتنور بفضل الله سرائره الباطنية من قلبه وروحه وسره وخفيه وأخفاه فيترقى حينئذ إلى مرتبة النفس المطمئنة فيقال له حينئذ ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) الشمس 9 .
من كتاب ومضات حق ونفحات صوفية
للعبد الفقير الى رحمة الله تعالى
الشريف محمد أديب العزي النقشبندي