عندما تعصف بنا رياح الغربة والضياع في زمن ذابت فيه المشاعر , وضاعت دمعة
الصدق وسط أمواج الكذب والخداع , نعود لنبحث عن الأمان في زمن الخوف , عن
الرحمة في زمن القلوب الجامدة , عن الطهر والنقاء , فتضيع خطانا من جديد ,
ويصرخ فينا الصبر أعييتموني ·· وتبقى لنا الذكرى شمعة تضيء النفوس الحائرة ,
وما أجمل التأمل في سيرتها وذكراها..
إنها النقية الطاهرة الصديقة بنت الصديق , السيدة أم المؤمنين عائشة ـ رضي
الله عنها وأرضاها ـ من تهيأ لها ما لم يتح لقريناتها , ونالت من الشرف
والرفعة والكرامة ما خلَّد ذكراها في قلوبنا إلى اليوم , فقد أتيح لها تعلم
القراءة , وهو أمر لم يتاحُ في زمانها إلا القلة من الرجال , فضلاً عن
النساء , ونشأت في بيت عُرِفَ منذ الجاهلية بالرفعة والكرم , وإغاثة
المكروب بين أحضان أم حنون , وأب عطوف نبيل , ثم تشرق على هذا البيت شمس
الإسلام ؛ لتملأ أركانه دفئا وأمنا , رغم كل المخاطر والصعوبات المحدقة
بالدعوة الوليدة , وتزيد من رفعة نفوس أهل البيت وشرفهم، ويصبح الصديق من
أقرب المقربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويتلألأ البيت الطيب بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم , وتتعطر
أركانه بعبق صوته الكريم، ثم هاهي تتوج بأعظم ما يمكن أن تناله امرأة من
شرف وفضل حين يختارها الله عز وجل زوجة لأحب خلق الله إلى الله , فيحمل
صورتها جبريل عليه السلام في حريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أكثر من رؤية قائلاً: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
وتقترن الصديقة الطاهرة السيدة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ
برسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لها خير زوج ومعلم وراع وصديق , ويمن
الله عليها بمحبة رسوله الكريم لها , فتصبح أحب أزواجه إليه فيتحقق لها
أفضل ما تصبو إليه امرأة في زوجها·
يا الله !!! يا أم المؤمنين , بعد كل تلك المنن والمنح والشرف هل صفت لك
الحياة , وخلت من الهموم والأحزان؟! لا والله ! فالمرء يبتلى بقدر إيمانه ,
والمستعرض لحياتها ـ رضوان الله عليها ـ يرى أنها قد صادفت الكثير من
الهموم والكروب والأحزان 0
فها هي تُحرم من أجمل ما تتمناه امرأة وزوجة محبة , بأن تتوج علاقتها
بالرجل الذي أحبته , وتمنت إسعاده بطفل يوطد أواصر تلك العلاقة ويقويها،
وقد ظهر ألامها وأحزنها من الحرمان من الذرية يوم قالت للنبي صلى الله عليه
وسلم وهي حزينة : كل صواحبي لهن كُنى! قال عليه الصلاة والسلام : " فاكتني
بابنك عبدالله " يشير إلى عبدالله بن الزبير ابن أختها أسماء رضي الله
عنها، فكانت تكنى به , وتحبه حب الأم لولدها.
ولنا أن نتخيل شعورها كامرأة تشتاق كل الشوق للأمومة وهي ترى فرحة النبي
صلى الله عليه وسلم بابنه إبراهيم , وحبه الجارف للحسن والحسين أبناء
السيدة فاطمة الزهراء·· رضي الله عنها ولكن!
لئن كانت السيدة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ ـ حُرمت من
الأمومة فقد عوضها الله تعالى بأمومة كل المؤمنين , فهي من أمهات المؤمنين ,
والجميع يناديها: "يا أماه".
فكان هذا النداء خير عوض وتعزيه, كما كان في حب رسول الله ورعايته لها عوض
آخر , تعرضت للحرمان منه بحادثة الإفك·· محنة أخرى وعاصفة كفيلة بأن تهدم
أعظم بيت , حين تلوك ألسنة السوء , والإفتراء , والكذب , سمعة وشرف زوجة
نبي ورسول كريم , وتحيط بها الإشاعات والأقاويل , وهو أسوأ ما يمكن أن
تبتلى به امرأة.
وتصف لنا السيدة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ حالها حين علمت بما يقال عنها قائلة:
"وبكيت تلك الليلة والليلة التي بعدها , وأبواي عندي يظنان أن البكاء فالق
كبدي" وعندما واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم بما أشيع عنها ما كان منها
إلا أن قالت ": فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }يوسف18
ولكن رحمة الله قريب من عباده الصالحين , فينزل الوحي على رسول الله صلى
الله عليه وسلم ببراءة من الله تدفع عنها كل أذى , وتبرئها من مما تقولوا
به عليها , وتظهر طهرها وعفتها , وتغمدها الله تعالي بواسع رحمته وأنزل
فيها قرآناً يتلي آناء الليل وأطراف النهار علي مر الأزمان والدهور والعصور
0
وتمر العاصفة بسلام 0
ولكنها لن تكون آخر الابتلاءات فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرض ,
وتشتد به الحمى , ويستأذن زوجاته في أن يمرض في حجرة السيدة أم المؤمنين
عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ وتودع السيدة أم المؤمنين عائشة ـ رضي
الله عنها وأرضاها ـ أحب خلق الله , الزوج الذي ملأ الحياة دفئاً ومودة،
والرسول الذي فتح لها مناهل العلم والنور والهداية، وتظل السيدة أم
المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ في حجرتها بجوار قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم تزوره , وتستأنس به كما لو كان على قيد الحياة لم يغب
عنها إلا الجسد.
أما روحه الشريفة فمازالت سراجاً يضيء ليل وحدتها , ثم يُدفن إلى جواره
أبيها أبو بكر الصديق , رضي الله عنه , فتودع الأب بعد أن ودعت الزوج،
وتمضي السنون مسرعة , ويتولى سيدنا عثمان رضي الله عنه الخلافة , وتحدث
الفتنة الكبرى بأحداثها المريرة , ويتورط محمد بن أبي بكر في تلك الفتنة ,
فيدخل على سيدنا عثمان رضي الله عنه يريد قتله , ويأخذ بلحيته , فيقول له
سيدنا عثمان رضي الله عنه: "مهلا يا بن أخي، فوالله لقد أخذت مأخذاً ما كان
أبوك ليأخذ به" وفي رواية أخرى "لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها" فيتركه
محمد وينصرف مستحيياً نادما ً··
ويعلن محمد بن أبي بكر مراراً أنه بريء من دم عثمان , ولكن المأساة تكتمل
فصولها الحزينة بمقتل محمد شر قتله في مصر، وكان الإمام علي ـ رضي الله عنه
ـ قد ولاه عليها , فأنفذ إليه معاوية جيشاً لمحاربته والاستيلاء على
مصر... فلما بلغ ذلك السيدةعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها جزعت عليه
جزعاً شديداً , وضمت أولاده إليها، وهكذا شاءت الأقدار أن تودع عائشة
الأحبة واحداً تلو الآخر , وهي صابرة محتسبة ·
وترحل السيدةعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهاعن عمر يقارب السبعين , وتبقى
ذكراها في القلوب العطرة الندية , والأنموذج الرائع للمرأة المسلمة الطاهرة
, يزينها تاج الحياء والعفة حتى تقول ـ رضي الله عنها :
: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ـ رضي
الله عنه ـ واضعة ثوبي , وأقول : "إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمرـ رضي
الله عنه ـ والله ما دخلته إلا مشدودة علي ثيابي حياءً من عمر" .
وزوجة أدركت قدسية حقوق الزوج , وأوصت بها كل بناتها قائلة "يا معشر النساء
, لو تعلمن حق أزواجكن عليكن ؛ لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن وجه
زوجها بنحر وجهها " وتحملت معه كفاف العيش , وأعباء الدعوة , فأضاءت بيتها
بالسعادة والمودة حتى ملكت شغاف قلب زوجها صلى الله عليه وسلم , وروت عنه
من الأحاديث والأخبار ما أفادت به الأمة.
وظلت الأجيال تلو الأجيال تنهل منه , فنهضت بأمانة التبليغ والتعليم أحسن
النهوض وأوفاه، ثم هي العابدة التقية المتصدقة , يأتيها ما يقارب المائة
ألف درهم ـ وهي صائمة ـ فتتصدق بها عن آخرها , فتقول لها جاريتها : أما
استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟
فترد السيدةعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني
لفعلت، ويقول ابن سعد: رأيت عائشة تتصدق بسبعين ألفاً , وإنها لترقع جانب
درعها ·· تلك هي السيدةعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، تلك هي
السيدةعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها , السيدةعائشة أم المؤمنين رضي الله
عنها