شهيد التصوّف كاشف الحب الإلهي"الحقيقة دقيقة، طرقها مضيقة، فيها نيران شهيقة، ودونها مفاوز عميقة"."افهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلق بالخليقة، الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل الى الحقائق، والادراك الى علم الحقيقة صعب، فكيف الى حقيقة الحقيقة؟" (الحلاج)
اشهر المتصوفة في العالم الاسلامي، هو ابو المغيث الحسين بن منصور الملقب بالحلاج. فارسي الاصل كتب بالعربية، ولد عام 244 هجرية (858م) في بلدة البيضاء الفارسية وتوفي مقتولا عام 309 هجرية (922م). بعد حياة حافلة بالمعرفة والتجليات ومغامرات الكتابة والمنازعات من اهل الزمان، تتلمذ على يد مشايخ الصوفية مثل الجنيد بن محمد وعمر بن عثمان المكي وابي الحسين القوري. ثم انفصل عنهم وراح يبشر بالتصوف في خرسان والاهواز والهند وتركستان. ثم حج ورجع الى بغداد فالتف حوله التلامذة.
كان بعض مشايخ الصوفية امثال ابو العباس بن عطاء البغدادي ومحمد بن حفيف الشيرازي وابراهيم بن محمد النصر اباذي يصححون له ويدونون كلامه حتى قال ابن حفيف: "الحسين بن منصور عالم روحاني".
قال ابو عبد الرحمن السلمي سمعت ابراهيم ابن محمد النصر اباذي وعوتب في شيء وحكى عن الحلاج في الروح، فقال للذي عاتبه: "ان كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج". قال ابو عبد الرحمن: "وسمعت منصور بن عبدالله يقول: سمعت الشبلي يقول: كنت انا والحسين بن منصور شيئا واحدا، الا انه اظهر وكتمت". وقد روي عن الشبلي من وجه آخر انه قال وقد رأى الحلاج مصلوبا: "الم أنهك عن العالمين؟".
ومما يدل على انه كان ذا حلول في بدء امره اشياء كثيرة، منها شعره في ذلك، فمن ذلك قوله:
جبلت روحك في روحي كما يجبل العنبر بالمسك الفنق
فاذا مسك شيء مسني واذا انت انا لا نفترق.
وقوله:
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فاذا مسّك شيء مسني فاذا انت انا في كل حال.
وقال ابو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي انه قال: "كنت اماشي الحلاج في بعض ازقة مكة وكنت اقرأ القرآن، فسمع قراءتي فقال: يمكنني ان اقول مثل هذا. ففارقته". ولهذا فقد كان القدماء من الصوفية يذكرون اقواله في كتبهم دون ذكر اسمه، بأن يقولوا مثلا: قال احد الكبراء، (وهذا صنيع ابي بكر محمد الكلاباذي الف الموسوعة الصوفية الثانية بعد اللمع، وهو كتابه (التعرف على مذهب اهل التصوف).
وكذلك صنيع السراج الطوسي صاحب الموسوعة الصوفية الاولى (اللمع) وقد استشهد بكلام الحلاج في اكثر من خمسين موضعا من كتابه مصدرا القول بقوله: قال بعضهم، او قال القائل. وفي القرن الخامس وما يليه ابتدأ بعض المتصوفة يصرحون باسمه، ويذكرون مقالاته، ويشهدون بفضله وسعته، فقد اشاد به ابو حامد الغزالي، وابن عربي، وعبد الغني النابلسي، وكل المتصوفة منذ القرن الخامس. واما في العصر الحديث فقد كتب فيه طه عبد الباقي سرور كتابا بعنوان: (الحلاج شهيد التصوف الاسلامي).
فسلك الحلاج في التصوف مسلكا وعرا اذ القى بكليته في غمار الحضرة الالهية، غير هياب مما سيؤول اليه حاله. بل مشتاقا في قرارة نفسه الى خاتمة درامية. فقد نقل عنه معاصروه انه قال صبيحة احد اعياد الاضحى: تهدى الاضاحي، واهدي مهجتي ودمي". ولما قطعوا يديه يوم بدأوا بقتله (وهو القتل الذي استمر ثلاثة ايام) غسل وجهه بدمائه وقال: ركعتان في العشق لا يجوز وضوؤها الا بالدم. لذلك السلطة العباسية اوقفته بعدما اتهمته المعتزلة بالشعوذة وحرمه الامامية والظاهرية فعذب وسجن ثماني سنوات وصلب في ساحة بغداد واحرق جسده.
صرح فيه الجنيد ذات يوم قائلا: "اية خشبة ستفسدها (اشارة الى انه يموت مصلوبا) وذات يوم صاح هو نفسه بسوق بغداد بعدما تملكه وجع عظيم: ايها الناس اعلموا ان الله قد اباح دمي فاقتلوني، اقتلوني تؤجروا واسترح، اقتلوني تكتبوا عند الله مجاهدين، واكتب انا شهيد".
وقال ضمن مناجاته: هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقربا اليك، فاغفر لهم. فانك لو كشفت لهم ما كشفت لي، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم، لما لقيت ما لقيت.
فآراء الحسين بن منصور في التصوف كمسألة حلول الذات الالهية في الذات الانسانية (فيحق للولي ان يقول: "انا الحق") هي التي أدت الى نهاية الحلاج الحزينة.
حينما كان للحلاج 38 عاما، ترك عائلته ورحل عن بغداد الى شمال شرق الامبراطورية الاسلامية لسنوات عدة، ثم الى الجنوب، الى الهند، ثم عاد الى فارس والاهواز واخيرا البصرة، ومنها حج البيت الكريم ثانية بصحبة اربعمائة من اتباعه، ثم عاد بعد ذلك الى بغداد، لكنه اتهم هذه المرة بممارسة السحر الهندي، فغادرها متوجهاً الى وادي الهند. ويبدو ان رحلته هذه ما زالت موضع تحقيق، حيث يعتقد انه بعدما مر بكشمير عابرا الى تركستان، وهذا الاعتقاد يستند الى الانتشار الواسع جدا لاسمه في اغاني واشعار هذه البقاع في اللغات السندية والبنجابية والكشميرية اكثر مما في اية بقعة اخرى من الارض العربية والاسلامية، وكان له التأثير الكبير في الثقافة التركية والايرانية والهندية، مما جعل الكاتب الهندي المسلم (غالب) ان يكتب عن الحلاج (القرن 19) مؤكدا بأن الحلاج نال الجزاء الذي يستحقه لأنه باح بالحب، ومن يبوح بسر الحب ويكشف ستر المحبوب ينال العقاب حتى وان كان فيض الحب الذي دفعه للصراخ وكشف المستور، اكبر منه.
الا ان السلطة المركزية في بغداد آنذاك نظرت اليه بريبة، وتخوفت من رحلته الى وادي الهند كثيرا، وخمّنت انه يقيم علاقات سرية مع الحركات الدينية المعارضة للسلطة المركزية، والتي كانت منتشرة في ارجاء الامبراطورية الاسلامية آنذاك، وانه يغطي اهدافه السياسية بتعاليم دينية غامضة. وحينما عاد الى بغداد بعد رحلته هذه، بدأت الرسائل تصله من كل البلدان التي زارها، ومن الطبيعي ان هذه الحفاوة والتقدير، وهذه المكانة الروحية للحلاج قد تركت ردود فعل سلبية لدى بقية رجالات الصوفية، كما بدأ (الصاصون) يتبعون كل شاردة او واردة تخصه. وخلال هذه الفترة رحل الحلاج متوجها الى بيت الله الحرام للمرة الثالثة وبقي هناك سنتين، بعدها عاد لبغداد مستقرا فيها، متخذا من اسواقها مكانا للموعظة. وتتوارد الاخبار عن تصرفاته الشخصية الغريبة، عن نسكه وبكائه الطويل توحداً وتعبداً، ثم ضحكه المفاجىء احيانا، وحديثه الغامض عن (الحب الالهي) الذي صدم الكثيرين من رجال الدين آنذاك. لكن المشكلة كانت آنذاك مع السلطة، حيث كانت بغداد تعيش حالة من التوتر والاضطراب مما دفعها للتخوف من رجل كالحلاج، فزجت به في السجن، ويقال انه هرب من سجنه لكنه اعتقل ثانية، وعند المحاكمة الاولى عومل برفق، لتدخل أم الخليفة، فنقل من سجن الى سجن، لكن بعد سبع سنوات، وفي العام 919 ميلادية، واذ تدهورت الاوضاع في بغداد، وتناهى الى أسماع السلطة ان الحلاج امسى، رغم سجنه، أشد قوة حيث أخذ الناس يتحدثون عن كراماته الجليلة، ويتناقلون حكايات عجيبة عن علاقاته بالارواح وما شابه، اقتحمت السلطة بيته، رغم انه كان سجيناً، فوجدت هناك الكثير من الرسائل والمخطوطات التي كتبت على ورق صيني فاخر، بعضها كتب بماء الذهب، وبعضها وشي بالحرير، ورسائل منه تتضمن تعليماته للوصول الى التفاني والحلول، ورسوم غريبة وخطوط تدينه وتؤكد علاقته ببعض الفرق والمذاهب المغالية والتي كانت تهدد كيان السلطة المتهرئة في بغداد، فأمر قاضي القضاة باعادة محاكمته وأصدر حكماً باقامة الحد عليه، وقد وقع (84) شاهداً على قرار الحكم!!! فصلب في 23 ذي الحجة من العام 309هـ (26 آذار من العام 922م).
ومن هنا انتقد العديد من المتصوفة الحلاج ايضاً، وبدأوا يشككون في ادعائه الوصول الى الهدف. ففي رأيهم أنه لو تحقق له ذلك لكان قد صمت، (لأن أجراس القافلة تصمت حينما يصل المسافرون الى قبلتهم)، ومن هنا ايضاً، فان صرخة الحلاج: "أنا الحق"، ليست دليلاً على لحظة الالتحام وانما على العكس، فهي دليل على البعد والفراق.
غير ان المتصوفين المتأخرين رأوا في الحلاج (متوحداً بالوجود)، وان صرخته المدوية عبر القرون دليل على ذلك. وعلى هذه النظرة اعتمد العلماء والمستشرقون الاجانب عند حديثهم عن الحلاج الذي ورد ذكره في الغرب للمرة الاولى في القرن السابع عشر. والواقع ان أول فهم غربي للحلاج ك (موحد للوجود)، كما أوضحت آني ماري شيمل المستشرقة (الشخصية الموحدة للوجود). وبينما كانت دراسات المستشرقين الاوائل، لاسيما المستشرق (يوهان ياكون رايسكه) الذي توفي العام 1774، ينظر للحلاج كمجدف وهرطقي، كان المستشرق الفرنسي (بارتلوم دي هيربلوت) في كتابه (المكتبة الشرقية) ينظر الى الحلاج كمسيحي متخف، وقد تبنى هذه النظرة كل من المستشرق (أوغست موللر) و(أدلبرت ميركي)، وحتى في الفترة الاخيرة ظهرت دراسات في اللاهوت الشرقي تؤكد هذه النظرة، ومن أهمها أطروحة (ن. م. داهدال) الذي رأى ان الحلاج تم صلبه بسبب افكاره النصرانية. لكن هناك من ذهب أبعد من ذلك حينما أراد أن يربط بين الحلاج والديانات الهندية القديمة، لاسيما المستشرقان (فون كريمر) و(ماركس هورتون) اللذان يريان ان صرخة الحلاج (أنا الحق) هي ذاتها التي وردت في (الاوبانيشاد): أنا براهما. وهذه هي النظرة السائدة في الثقافة الاسلامية في الهند.
كان الحلاج يؤمن بأن الاصلاح الاجتماعي يجب أن يبدأ أولاً من الاصلاح النفسي، ولا يمكن أن يتم ذلك الا بعد إعداد الفرد وتهيئته جسدياً وروحياً معاً، وبأن التصوف الحق هو استهلاك ناسوتية الانسان في لاهوتية الله، وبأن جميع الناس وإن لم يستطيعوا استهلاك ناسوتيتهم كلها، بامكانهم استهلاك بعض هذه الانانية التي تثير البغضاء عند الناس. فانسان لا يمكنه فصل ذاته عن المجتمع. والحق المطلق لا يدرك الا بحجاب ناسوت هذا الحق وناسوت الحق لا يدرك الا باحقاق الحق، ذلك لأنه سر نوره اللاهوتي. وهكذا كانت رسالة الحلاج إحقاق الحق في الانسان فرداً ومجتمعاً.
لذا نجح الحلاج في الوصول الى التحقق بالوحدة الإلهية التي لا تأتي لانسان بأن يحقق ذاته بها الا بواسطة الشوق الإلهي، وهذا الوجد وهذا الحب، فيتخلى عن انانيته مصدر الظلمة والعدم والجهل والعذاب. أخذ الحلاج يحث الناس على الصلاح وعصيان النفس الامارّة بالسوء ونبذ الرذائل، ويدعوهم الى هذا الحب الإلهي الذي يصل بالمرء الى التوحيد الحق، وأخذ يدعو ايضاً الى التنكر للأنا ونبذ كل شيء ما عدا عشق الله الواحد الأحد والفناء فيه. فالتوحيد الحق انما هو توحيد الذات بالله. وكل ما هو دون ذلك ان هو الا تعلق بالوهم الخادع.
كتبت في أخبار الحلاج كتب كثيرة، أهمها كتاب علي بـن أنجب الساعي المتـوفى سنـة (674هــ) الذي نشره ماسنيون مضيفاً اليه كثيراً من أخبار الحلاج التي عثر عليها، وأهمها: كتاب (ذكر مقتل الحلاج) لابن الزنجي ونشر عمله هذا سنة 1936م. وللحلاج سيرة شعبية طبعت قديماً في مطبعة الترقي بدمشق عام 1939 وقام ماسنيون بنشرها في مجلة الدراسات الشرقية 1945 (م3 عدد 422) وأعادت نشرها (دار صادر بيروت).
وايضاً هناك كتاب بعنوان: "الحلاج - الاعمال الكاملة" للكاتب قاسم محمد عباس، الطبعة الاولى 2002، وايضاً كتاب بعنوان: "الحلاج في ما وراء المعنى والخط واللون، للكاتب سامي مكارم. طبعة جديدة منقحة ومزيدة 2004 صادران عن دار رياض الريس للكتب والنشر.