الدس في مؤلفات الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي
للشيخ الأكبر ما
يقارب خمسمائة كتاب يعلم منهم الآن مائتي كتاب ، والباقي لم يعثر عليه بعد
فيما نعلم ، ومن أشهر كتبه ( فصوص الحكم ) و ( الفتوحات المكية ) وهما من
أعظم كتب المكتبة الإسلامية على الإطلاق ، وإن كانا لا يخلوان من الدس
بشهادة المحققين .
وقد سئل الإمام الحصفكي : " من قال عن فصوص الحكم
للشيخ محي الدين بن عربي إنه خارج عن الشريعة ، وقد صنفه للإضلال ، ومن
طالعه ملحد ، ماذا يلزمه ؟
أجاب : نعم فيه كلمات تباين الشريعة ، فتكلف
بعض المتصلفين إرجاعها إلى الشرع ، ولكن الذي تيقنته أن بعض اليهود افتراها
على الشيخ قدس الله سره . وقد صنف الحافظ السيوطي كتابا أسماه ( تنبيه
الغبي في تبرئة ابن عربي ) بين فيه حقيقة منهج الشيخ الأكبر الذي ليس إلا
الكتاب والسنة ، وقال الشيخ البلقيني : ( كذب والله وافترى من نسبه - يقصد
الشيخ الأكبر - إلى القول بالحلول والاتحاد ) ، ولدينا عدة وثائق تثبت أن
كتاب الفتوحات تعرض للدس والتزوير ، فيقول الشعراني في اختصاره للفتوحات :
(
وقد توقفت حال الاختصار في مواضع كثيرة منه لم يظهر لي موافقتها لما عليه
أهل السنة والجماعة فحذفتها من هذا المختصر ، وربما سهوت فتتبعت ما في
الكتاب كما وقع للبيضاوي مع الزمخشري ، ثم لم أزل كذلك أظن المواضع التي
حذفت ثابتة عن الشيخ محي الدين حتى قدم علينا الأخ العالم الشريف شمس الدين
أبو الطيب المدني المتوفى سنة 955 هـ فذاكرته في ذلك فأخرج إلي نسخة من
الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محي الدين نفسه
بقونية ، فلم أر فيها شيئا مما توقفت فيه وحذفته ، فعلمت أن النسخ التي في
مصر الآن كلها كتبت من النسخة التي دسوا فيها على الشيخ ) (1)
ولدينا
وثيقة أخرى تثبت أن الشيخ الأكبر لاحظ أن كتابه داخله التحريف والتغيير ،
فأعاد كتابته وترك نسخة أصلية عليها خط يده كمرجع ، فقد ذكر المقري وهو
المعروف بدقته وتثبته ( أن الشيخ الأكبر أرسل يستأذن الشيخ ابن الفارض في
شرح تائيته . فقال ابن الفارض رحمه الله : كتابتك المسمى بالفتوحات المكية
شرح لها ) (2)
وإذا علمت أن ابن الفارض توفي سنة 632 هـ والنسخة التي
بخط الشيخ الأكبر كانت في أواخر حياته إذ فرغ منها في 635 هـ دلك هذا على
أن الشيخ لاحظ التحريف الذي طرأ على كتابه ، فأراد أن يجعل له حدا بأن يجعل
من نسخته مرجعا ، ولا يبعد أن تكون النسخ الموجودة فيما بعد ذلك التاريخ
خليط مما كتب الشيخ وغيره ، وقد ذكرنا ذلك ليكون قارئ كتب الشيخ الأكبر على
حذر .
والراجح عندي أن هذه الإضافات هي محاولات من البعض لشرح مغاليق
كتب الشيخ وإشكالاتها ، فأضاعوا المعنى من حيث لا يشعرون ، ويظهر هذا واضحا
في تغيير الأسلوب فجاة من أسلوب الشيخ المشهود له بالتقدم والروعة ، إذ هو
أحد خمسة كتاب شهد لهم علماء الإسلام بالتقدم على سواهم من سابقين ولاحقين
(3) إلى أسلوب تقريري عادي خصوصا في الفتوحات .
ولنرجع إلى العبارة
التي ذكرها المنكر وهي ( إن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل
شيء ) وخوفا من أن يتبادر إلى ذهن سامعها ما تبادر إلى ذهن المنكر ، نجد أن
الشيخ كرر في كتبه قوله : ( إن العالم ما هو عين الحق ، ولا حل في الحق ،
إذ لو كان عين الحق او حل فيه لما كان تعالى قديما ولا بديعا ) (4) أو قوله
: ( أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه البعض أن تعلم عقلا أن
القمر ليس فيه من نور الشمس ، وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها وإنما كان
القمر محلا لها ، فكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه ) (5)
فالشيخ
رحمه الله يبين بوضوح وصراحة أن الحلول والاتحاد لا يصح اعتقادها ، إذ أن
ذلك سيؤدي بداهة إلى سلب الصفات الواجبة لله وحده ، مما يؤدي بدوره إلى
لزوم فسادها .
فالعارف من أسقط السوى بالكلية ، فلا يرى في المخلوق إلا
قدرة وإرادة الله تعالى ، إذ ذهب المجاز وبقيت الحقيقة ، حقيقة ما ثم إلا
الله ظاهرا وباطنا اولا وآخرا .
وقد قلنا سابقا : إن لكل طائفة اصطلاحات
وألفاظا تعارفت عليها لا يقف على مضمونها إلا هم ، وإلى هذا أشاؤ الجلال
السيوطي رضي الله عنه بقوله : ( واعلم أنه وقع في عبارة بعض المحققين لفظ
الاتحاد إشارة منهم إلى حقيقة التوحيد ، والتوحيد معرفة الواحد الأحد ،
فاشتبه ذلك على من لا يفهم إشاراتهم ، فحملوه على غير محله ) (6) وأيضا فإن
الاصطلاحات والألفاظ لا تشرح ، بل تفهم ، ومن أراد فهمها وإدراكها فليكن
في مستوى قائليها ، قال شيخ الأزهر عبدالحليم محمود : ( فلا بد أن يبلغ
الإنسان المستوى أو يقارب المستوى ، وحينئذ سيقول كما قال أسلافنا الذين
بلغوا المستوى أو قاربوه : رضي الله عن سيدنا محيي الدين بن عربي ) (7)
والخلاصة
: أن الذي يجب علمه يقينا أن الشيخ الأكبر كان إمام التحقيق حالا ومقالا ،
والشارح لعلوم العارفين فعلا واسما ، لا ينطق بغير الله ، ولا يسير على
غير كتابه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان شعاره دائما -
كل من رمى ميزان الشريعة من يده لحظة هلك